وتعالوا إلى (مصادر المعرفة).. وكيف ربطها الإسلام بـ(العقل)؟

TT

نحن في شهر (القرآن).. ومن يتدبر هذا الكتاب العظيم، فإن اول ما يلتقي فيه هو ان (العقل: هو العملة الصحيحة الرائجة) في دين الاسلام.. ومن هنا نقول: ان ما كتبناه في المقالين السابقين ـ تعليقا على مقولات بابا الفاتيكان عن الاسلام ـ لا ينبغي ان يحسب في سياق (ردود الفعل)، وانما هو (حجاج عقلاني) في (سياق منهجي) يتسم بالمبادأة والمبادرة والتأصيل والاعلاء الدائم لـ (قيمة العقل).. صحيح ان (المناسبة) لها تقديرها في طرح الافكار والمفاهيم، بيد ان المناسبة قد تذكر بـ (المنهج المعرفي) لكنها لا تنشئه، اذ هو مؤسس على قواعد موضوعية مطردة في الزمان والمكان. وهي قواعد أثبت من المناسبات وأعلى وأبقى.

نقول هذا: ضمنا بالمنهج من ان يضيع في زحام ردود الفعل.. ونقوله لنبين: ان الاسلام والعقل قرينان لا يفترقان.

منذ اشهر ستة ـ تقريبا ـ قدمنا البحث التالي الى مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية في الرياض من خلال مؤتمرها الجاد الراقي عن (الثقافة العلمية).

ومما انتظمه ذلك البحث: بادئ ذي بدء ينبغي كتابة سطور عن (مصادر المعرفة) التي يمكن اجمالها في ثلاثة:

أ ـ الوحي

ب ـ الحس

جـ ـ العقل الذي يعقل الوحي والحس

ونحن في بيئة تؤمن بـ (الوحي) (المجتمع السعودي) فلا داعي ـ من ثم ـ لحجاج ينزع الى اقامة البرهان على امكان نزول الوحي، والى دليل يثبت صحة الوحي.. بيد ان الاستغناء عن هذه الحاجة لا يعني الاعراض عن اهمية الوحي في تخصيب التفكير وتهيئته للثقافة العلمية. ذلك ان من الوظائف الاولى للوحي: تحريك الفكر وتفجير طاقته الكامنة المحبوسة.

ان للتخلف الحضاري اسبابا جمة: بسيطة ومركبة.. ومهما تعددت هذه الاسباب، فإن اهمها ـ باطلاق ـ : (الجمود الفكري). ولذا كانت المهمة الاولى للوحي في مطلع التنزيل هي: اذابة الجمود الفكري، والتحجر العقلي.

ولهذه الاولوية تعليل عقلاني ومنهجي واضح وهو: ان البلاغ الديني لا يتحقق ولا يبلغ مبلغه في ظل بيئة يسودها الجمود الفكري: «ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون».. ومن مدلولات الآية: ان الذين يعطلون (حواس المعرفة) ومداركها لا يمكن ان يستفيدوا من (مصادر المعرفة).. ومن هنا اقتضى الترتيب المنهجي والعقلاني: البدء بما لا يجوز البدء بسواه: البدء بمعالجة الجمود الفكري والعقلي.

وتبدت هذه المعالجة في سياقين اثنين ـ على سبيل المثال ـ:

1 ـ سياق الأمر الحصري، أو الأمر بمطلوب (وحيد)..: «قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا».

واحدة فحسب وهي: ان تكون حركة التفكير بديلا لحالة التحجر المطبقة السائدة. فما تُفهم الرسالة ـ قط ـ والحالة هذه. وانما نزلت الرسالة لتفهم، ولا يتمارى أولو النهى في ان المقدمة الأولى للفهم هي أن تكون أداة الفهم متحركة لا جامدة، متقدة غير خامدة، متفتحة غير منغلقة.

2 ـ ومن الترتيب العقلاني المنهجي: ان يقترن طلب التفكير: بما يحرك التفكير ويطلقه من عقال وحبس:

أ ـ «أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى».

ب ـ «قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون».

ج ـ «وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون».

ومن الوَفق المنهجي والمعرفي: ان الوحي من خلال تحريك الفكر واستحضار العقل: حفز على الاتصال الوثيق والطموح بـ(الحس) أو بـ(الكون)، أي حفز على (مباشرة المصدر الثاني للمعرفة).

ان (الثقافة العلمية) هي النسيج الفكري والمعلوماتي التي تتكون خيوطه القوية من (حقائق العلم) في حقوله كافة.

وحقائق العلم هي ثمرة التعامل العقلي النشط المتبصر المثابر:

مع طاقات الكون وذراته وسننه وقوانينه.. سواء كان التعامل في صورة البحوث العلمية البحتة، أو في صورة تطبيقات نتائج هذه البحوث.

ومن الوفق المنهجي والمعرفي ـ كذلك ـ: ان العقل (وهو المصدر الثالث للمعرفة) هو (ملتقى الوحي والحس).

أ ـ فالوحي لا يعقل إلا بالعقل: «إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون».

ب ـ والحس لا يعقل إلا بالعقل: «إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون».

وهذا التكامل المنهجي المعرفي هو الذي يكوّن (الثقافة العلمية) من بيئة مؤمنة بالله وشرائعه.. عازمة على ان تأخذ حظوظها الجزيلة من التقدم العلمي.. متطلعة الى (إحياء فكري عقلي) ينتفع بالوحي، وبالكونيات في مسيره ومصيره.

لئن كانت الفقرات الآنفة: موجزا للبحث، فإن سائر مباحثه ومحاوره التالية: بسط لهذا الموجز، وإشباع لمضامينه ومقاصده، وإضافات اقتضاها استيفاء الموضوع.

لنقل أو لنتفق اننا على اعتاب نهضة جديدة ندخل بها في عصرنا هذا دخولا مزودا بمؤهلات العلم والمعرفة، والعمل والانجاز، والقدرة على الاتيان بروافد جديدة الى (مدينة الكرة الأرضية) في مختلف المجالات.

لنقل ذلك من باب الأمْنية المشروعة، أو من باب الانطلاق

من ايجابيات الواقع الى ما هو أرقى من الواقع، او من باب الاقتناع الراسخ بأن النهضة المطلوبة ليست ترفا من الترف، وإنما هي (ضرورة) ـ بالمعنى الحقيقي لا المجازي ـ لبقاء وجودنا المعنوي والمادي، ولاستمراره. وللنهضة المبتغاة (اصول)، لا يملك المسلمون ـ «استثناء كونيا» في ميدان الأخذ بها.

في طليعة هذه الأصول: السنن الكونية والاجتماعية. وثمة شبهة قذفت منذ امد بعيد، ولا تزال تقذف بهدف التشكيك في قيم الاسلام وصلاحيته.

هذه الشبهة هي: ان أمما غير مسلمة نهضت وتقدمت بغير إسلام، ومن ثم فان التقدم ممكن بدون الاسلام.

وبغيرة بادية: برز مسلمون غيارى يردون الشبهة بمنطق بالغ الضعف: قوى الشبهة وزودها بالوجاهة!!. فقد قالوا: نعم.. لا يمكن ان يتقدم شعب او امة بغير الاسلام.

وهذه حجة واهنة.. يضم الى ذلك انه ليس لها موجب اصلا.

ونحن نقول بوضوح لا يعتريه خجل ـ ومعنا مقاييس العقل ـ: ان الأمم تتقدم في مضمار العلوم التجريبية والكونيات بدون الاسلام.. وليس في الكتاب والسنة ما يرتب التقدم المادي والعمراني الحضاري الشاهق: على الايمان بالله، بل يثبت القرآن ان قوما كافرين ـ كعاد وثمود ـ كانت لهم حضارات شاهقة «لم يخلق مثلها في البلاد».

ونهضة اليابان المعاصرة ـ على سبيل المثال ـ تؤكد هذا المفهوم.. واليابان غير كتابية في الجملة.

وتفسير ذلك: ان هناك سننا كونية لا تفرق ـ في التعامل معها ـ بين مؤمن وغير مؤمن، بل ان غير المؤمن يتقدم اذا برع في التعامل معها، في حين يتخلف المسلم اذا فشل في مباشرتها بعلم، والتكيف معها بمعرفة. يفشل ـ يقينا ـ وإن صلى وصام. ذلك ان السنن الكونية لها ـ في التعامل معها ـ منهج معلوم.. ومن هنا يتوقف التعامل الجيد معها على الفهم الجيد لهذا المنهج.

ان (التناسل) سنة كونية طريقها الطبيعي النبوي هو: الزواج، فاذا تزوج غير المسلم: رزق اولادا. واذا لم يتزوج المسلم فلن تتغير السنة الكونية من اجله ـ بصفته ـ لكي يرزق اولادا بغير زواج.

ان السنة الكونية ها هنا مع غير المسلم لا مع المسلم:

وبتصعيد المثل، نجد ذات النتيجة.

فالله جل ثناؤه يقول: «وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه».

ومن مفاهيم هذه الآية: ان في السموات والأرض قوانين وطاقات قابلة للتسخير والطرق والتكييف والارتفاق.

في مجال التطبيق: سارع غير المسلمين الى فهم هذه الطاقات والقوانين الكونية فاستجابوا لها بعلم، وتعاملوا معها بفن فجنوا ثمار ذلك: تطويرا للزراعة.. وارتيادا للفضاء وترقية لنظم الاتصالات.. واستخداما للأقمار الصناعية في نقل ثقافتهم وحضارتهم الى العالم عن طريق الصورة والكلمة.

وذلك كله يتأتى في سياق المعقولات او (المسلمات العقلية) التي احتفى بها القرآن أي احتفاء.