دروس خطبة وداع بلير: معنى أن يخاطب السياسي المستهلك .. وليس المواطن

TT

المؤتمر السنوي لحزب الحكومة ـ العمال ـ في مانشستر هذا الأسبوع، يستحق أن يدرج ضمن دراسات فنون الحكم والسياسة والتمثيل النيابي كنموذج تحتذي به الأوساط السياسة والقيادات الشابة في بلدان الشرق الاوسط وافريقيا الساعية نحو الديموقراطية، او تلك التي تريد استعادتها بعد الانقلابات العسكرية.

جهر الصحافة الحرة الذي لا يرحم، فحص مدى قدرة السياسي على الوصول الى قلب الناخب عبر مخاطبة عقله، خاصة بتقديم وزراء بريطانيا برامجهم كمن يوجه أعضاء الحزب لإدارة محلات في فخامة هارودز تحترم حق «الزبون» في شراء بضاعة ممتازة افضل اعتادها المستهلك ـ أي الناخب ـ الذي كان يسمى في لغة القرن الماضي بـ«المواطن»؛ وهي التسمية التي لا تزال سائدة في الشرق الأوسط لتعكس المفهوم الديكتاتوري بتعبيرات كـ«أخي المواطن فلنستمر في الكفاح».

الكلمة لم تعبر شفتي توني بلير رئيس الوزراء وزعيم الحزب، حتى الآن، ـ باستثناء «يقاوم البريطانيون اليوم فكرة مواطني العولمة»، ليحث نشطاء الحزب على العمل ضد فكرة الانغلاقية القومية.

فبدلا من المواطن ذكر بلير «أولياء الأمور» في سياق التعليم، و«المريض» في سياق الصحة «والزائر» لتنشيط سوق السياحة و«العاملين» لخلق مناخ الاستثمار وغابت تعبيرات الشمولية من العالمين الثالث، والشيوعي «كالشغيلة» باستثناء التذكير بتاريخ الحزب في ضمان حقوق الاتحادات العمالية.

وكان لزعامة بلير فضل الخروج بالحزب من قيود ايديولوجية الصراع الطبقي للقرن 19 الى اسواق القرن الـ21 حيث ينظم رنين النقود في جيب الناخب ومضات تفكيره، وتمر أصابعه بكشف موازنة دفع اقساط البيت الذي يمتلكه، في طريقها لوضع العلامة امام اسم المرشح على بطاقة التصويت.

والى جانب البلاغة السياسة والقدرة على الوصول الى الجميع في خطابه، الذي يتفق المعلقون على انه من افضل خطب الزعماء العماليين في تاريخ بريطانيا الحديث، فإن بلير اختار الكلمات والاستعارات البلاغية بعناية، ليحذر الحزب من الانزلاق نحو اليسار والشعارات الجوفاء والتراجع نحو اشتراكية القرن الماضي، والتي ادت بالحزب القديم الى هزيمة نكراء امام المحافظين بزعامة مارغريت ثاتشر عام 1979. وابقت الشعارات اليسارية والانقسامات التي فجرها الأيدولوجيون في الحزب في بيداء السياسة لـ18 عاما، حتى اقنع بلير الناخب البريطاني، في اقل من ثلاث سنوات، بعد توليه الزعامة عام 1994، ان الحزب هو«سوبر ماركيت» عملاق متعدد المفاصل والحكومة هي الشارع الرئيسي في البلدة. اي مدير بنك الإقراض والادخار، والممرضة في المستوصف الصحي والعيادة، وساعي مكتب البوستة، وناظر المدرسة، والجرسون في المقهي والمطعم، والمطربة والراقصة في الملهى، والمضيفة في الطائرة، والكمساري في الباص؛ اي ترضي المستهلك /المريض/ ولي الأمر/ الزبون/ الباحث عن الترفيه والزائر، حسب طلبه وقدرته الشرائية من دون اجباره على الشراء بالقانون او الضريبة.

والكلمة السحرية هي «حرية الاختيار» وتحقيق المناخ الذي يوفر حرية اختيار طريق الكسب من اجل توسيع حرية الاختيار.

وكلمات كـ«المستهلك» أو «المجتمعات الاستهلاكية» لا تزال عيبا وحراما في قاموس اليسار الماركسي، وكثير من مثقفي الشرق الاوسط وافريقيا، لكنها ايجابية في المجتمع الصناعي المتقدم. فبدون استهلاك ومستهلك لا يكون هناك انتاج ومنتجون.

فالسوق هو محل تصريف البضاعة التي يخلق تصنيعها وإنتاجها وتغليفها وشحنها والتخلص من نفاياتها، وإصلاح ما عطب منها، فرص عمل تشغل عجلة الاقتصاد.

وبلير، وهو محام، سبق الاقتصاديين داخل الحزب لفهم المعادلة، ووضعها في برنامج، سهل عليه كمحام، المرافعة به امام المستهلك البريطاني، والمنتج البريطاني وصاحب المتجر البريطاني والمستثمر البريطاني، فانتخبوه ثلاث مرات متعاقبة.

تأكيد بلير لموقعه كرجل دولة، وسياسي بارع، ومحام ضليع في المرافعة يستطيع بجدله وسرده للمعلومات ان يقنع القاضي والمحلفين بالحكم لصالح موكله، جعل النواب الذين تمردوا عليه، ووقعوا رسالة تطالبه بالرحيل قبل شهر، يتساءلون عما اذا كانوا ارتكبوا خطأ تاريخيا فادحا.

فالمحامي البارع ابدى شجاعة وحسم في مواجهة اليسار بعواطفه وانفعالاته المناقضة للمنطق في أغلب الأحوال. فقد أكد بلير على خياراته في السياسة الخارجية، وحذر من السقوط في هوة «معاداة الأمريكية»، وهي الفيتامين السياسي والأيديولوجي التقليدي لليسار البريطاني ـ والأوروبي عموما ـ. ومعاداة الأمريكية هي خليط من التعالي والعنجهية التي يعاني منها الارستقراطي الذي وقع في براثن الفقر، بسبب كسله وعجزه عن التطور مع الاقتصاد الحديث، ورفضه ان تتسخ يداه، والحقد على من يعتبره حديث العهد بالنعمة واقل منه شأنا، لكنه اصبح اكثر ثراء وإنتاجا، وإن كان اقل ثقافة وتحضرا.

وقد أحسن بلير بشرح الاسباب الاقتصادية والسياسة للتحالف مع امريكا، مع شرح طبيعة اخطار الإرهاب التي نواجهها اليوم في بريطانيا، فهي ليست كخطر ارهاب منظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي، وإنما هي ارهاب عالمي، بدأ هجومه ليس على بريطانيا او امريكا فقط، بل استهدف بلدان المسلمين، قبل الحرب في افغانستان وقبل حرب العراق، وحتى قبل هجمات 11 سبتمبر الإرهابية. ورغم انه ذكر ان الجميع يرتكبون اخطاء، فإنه رأي ضرورة التعلم من الأخطاء، وشدد على ضرورة الانتصار على الارهاب بقوله «اذا انسحبنا وسلمنا العراق وأفغانستان لعصابات القتل والإرهاب، وسيطرت عليه القاعدة، فلن نسلم من إيذائهم»، وللتأكيد عدد البلدان الإسلامية، التي عارضت حرب العراق، لم تنجو من هذه النوع من الإرهاب.

وعندما اراد بلير تذكير مستمعيه بأنه انسان عادي، ذكر اسرته، واقتصار طموح ولديه، يوين ونيقولاس السياسي، على مجرد الدعاية للحزب على عتبات الدور، وكيف قسا رجل بالكلام على الابن، وكرر السباب لبلير عندما طرق بابه، لكنه دعا الولد بحنان الى قدح من الشاي (العلاج الفوري التقليدي الناجح لأي مشكلة بريطانية)، فور ان علم انه ابن بلير ولم يتحمل الكلام الجارح في حق ابيه. ورأي بلير في ذلك «روح البريطانيين: الكرم حتى مع من يختلفون معهم في الرأي وجوهر السياسة».

ويحسن بمثقفي ومعلقي بلدان الشرق الأوسط، ان يدرسوا خطبة وداع بلير.

فقد عدد انجازت الحزب، بدلا من ان يعددها كإنجازاته هو، ولم يحذر بأن حرمان الحزب من مواهبه كزعيم ستخسره الانتخابات، ولم يسير اتباعه مظاهرات تصيح «لا تتنحى.. لا تتنحى». فبلير، كرجل سياسة، هو نتاج تراكم ثمانمائة عام من الممارسة الديموقراطية والعمل السياسي، اعلن تنحيه طواعية في العام القادم بلا انانية، ولم يحدد خليفة له سواء قريب او صديق او حليف، ولا حتى وزير المالية جوردون براون، الذي يراهن كثير من النواب عليه. وهذا درس مهم، وثقة هائلة في قدرة الحزب ككل على تحدي الخيارات للزعامة، فقد صوت المؤتمر اليوم التالي على رفض برنامج بلير لخصخصة خدمات الصحة الموازية. فالحزب في خياراته للزعيم او السياسة يهتدي بنتائج استطلاعات الرأي، التي تجريها الصحافة الحرة باستمرار لتساعده على موازنة الخيارات، بما يقبله الناخب المستهلك في عصر احتضار الأيديولوجية وتراجع السياسة امام اهمية الاقتصاد وحق حرية الاختيار.