السودان بين التحول الديمقراطي والتفكك والعسكرة!

TT

جماعات الاسلام السياسي في السودان تعيش هذه الأيام في ضياع وتشتت، سواء الذين هم على هامش السلطة، أو الذين في طليعة المعارضة، وهناك من هم بين، بين، يحاولون جمع الشتات وتوحيد صف الحركة، وأولئك الذين يرددون على استحياء: ان البشير ما زال من صفهم وان انتسابه للعسكر لا يغير من الأمر شيئاً ولذلك عليهم ان يتبعوه حيثما سار. وكلهم يجمعون على ان اقتلاعهم من السلطة من الامور المستحيلة لانهم تمكنوا من كل مفاصل السلطة. وبما ان السلطة مغرية فإن كراسيها قد تكون للغالبية الخيار الأفضل للاستمرار فيها من التضحية بها أو المغامرة بها، لأسباب عقائدية! وتجربة المفاصلة بين الترابي وتلاميذه اثبتت ذلك عندما انحازت الغالبية للمواقع التي يشغلونها في الحكم، ولم يغادر المواقع الا نفر قليل جداً!

والبشير بعد ان ضمن قيادات الجيش الى صفه واعاد تشكيلها لتأمين هذه الغاية بوسعه ان يلوح بوحدة الصف الوطني ما يعني توسيع قاعدة الحكم وجلب شعبية تتجاوز قاعدة الحركة الاسلامية. والآن فإنه يبالغ في المزايدة على الاسلاميين متبعا خطاً خارجياً يجعله اقرب الى محور ايران ـ حزب الله ـ سوريا ما يسد في وجه التيارات الاسلامية اية فرص للاستقواء عليه بتلك القوى الخارجية، خاصة انه يغالي في المواجهة مع المجتمع الدولي والولايات المتحدة، وهو بذلك يدعم من رصيده وسط المتشددين الاسلاميين في السودان والاسلاميين بوجه عام في الخارج!

في كل الأحوال الحقيقة التي لا شك فيها ان البشير لم يعد رئيساً شرفياً والاسلاميون يحكمون بل سقاهم من ذات الكأس اذ اصبح هو الحاكم وهم التبع، يؤيدون بالصوت العالي أو الاجماع السكوتي ويحركهم حيث يشاء صعوداً وهبوطاً! ولكن الأوضاع في السودان مرشحة فعلاً الى تغيير لا يعلم أحد إلى اين وكيف سيكون؟!

من واقع الأوضاع من المفترض ان يكون هناك انتقال في الحكم بموجب اتفاق سلام الجنوب والدستور الذي تمخض عنه واتفاق ابوجا والالتزمات التي فرضها بالنسبة لحكم دارفور. لكن هذا الانتقال لم يتم بعد على نحو ما هو مرتجى بعد مرور عام ونصف العام على اتفاق سلام الجنوب.

فالمؤسسات المطلوبة لم يكتمل بناؤها بعد، والقوانين التي تقيد الحريات ما زالت سارية لم تعدل، والاهم: ان المشاركة في الحكم من جانب الجنوبيين لم تترك بعد اية بصمات تذكر. بل ان مؤسسة الرئاسة لم تأخذ شكلها الفعال وهي مكونة من البشير ونائبيه الأول سلفاكير والثاني علي عثمان واخيراً من المسؤول عن دارفور. فالرئيس البشير ينفرد بالقرارات. ومن ذلك رفضه للقوات الدولية بينما الشركاء من الجنوب ودارفور معها وليس من حقه هذا الاستفراد بنص الاتفاق والدستور. والشريك الآخر الذي اصبح بحكم منصبه كبيراً لمساعدي الرئيس وهو المسؤول عن ادارة حكم دارفور ومع ذلك لم يتسلم أي ملف من ملفات ذلك الحكم ولم يؤخذ في الاعتبار صوته المؤيد لدخول القوات الدولية ما ساعد في زرع الشكوك بأن مؤسسة الرئاسة هي مؤسسة شرفية والرئيس وحده هو الذي يقرر. واذا كان هذا هو الحال في قمة السلطة فكيف هو الحال في مسالك ما هو ادنى من مؤسسة الرئاسة؟.. هنا المؤتمر الوطني هو الكل في الكل ولا صوت يعلو فوق سلطته بحسبانه الحزب الحاكم وصوته من صوت الرئيس وحده، والله اعلم!

يبدو ان استمرار الحكم الشمولي الذي ترسخ عبر 18 عاما لم يستطع الفكاك من هذه الهيمنة الشمولية، بل انه ارتقى في شموليته الى اعلى مراتبها بمعنى انها تحولت الى حكم الفرد الذي هو الرئيس ويتجلى ذلك في مسالك عديدة، نتخير منها امثلة محدودة، نوردها في ما يلي:

* قبيل تقديم مشروع القرار 1706 إلى مجلس الامن فاجأ الرئيس البشير كل المسؤولين السودانيين والمجتمع الدولي بأنه سيطرد السفير البريطاني ويقطع العلاقات مع بريطانيا اذا واصلت تقديم مشروع القرار مع الولايات المتحدة. ولا شك ان الاستفراد بموقف كهذا يدل على مخاطرة كبيرة ينبغي ان يراجع الرئيس فيها ولكن لا احد من المسؤولين فتح الله عليه بكلمة، واكثر من ذلك: لماذا يطرد البريطاني ويقطع مع بريطانيا العلاقات ويستثني الولايات المتحدة بينما المشروع مقدم من الطرفين؟!

* الامر الثاني بعد صدور القرار 1706 بساعات صدر قرار برفضه من السودان ما يعني ان القرار لم يخضع للمناقشة داخل المؤسسات المعنية وخاصة مجلس الوزراء ومؤسسة الرئاسة التي بحكم الدستور لا يمكن اعلان امر كهذا بدون موافقة النائب الاول على الاقل.

* الامر الثالث هو مطالبة الرئيس للاتحاد الافريقي برحيل قواته قبل نهاية الشهر ثم عاد فوصف تخلي الاتحاد الافريقي عن مهامه بدارفور خيانة للسودان! وهذا التناقض يعني ان الرئيس يتصرف بصفة فردية وغير مدروسة.

* واخيرا فإن الرئيس اعلن ذات مرة في احدى خطبه انه يفضل ان يقود المقاومة ضد القوات الدولية على الرئاسة ومن بعد ذلك تمت مبايعته من الاجهزة العسكرية والامنية مع وصف بالخيانة والعمالة لكل من يعارض موقف الرئيس. بينما هذا الموقف يخالف الدستور الذي يقضي بوجود موافقة النائب الاول في مسألة اعلان الحرب وحالة الطوارئ وما الى ذلك. ومعلوم ان موقف النائب الاول مع القوات الدولية لانها موجودة بالفعل في السودان وفي اتفاق الجنوب. بالنسبة للجهات الدولية المعنية باتفاق السلام. فقد أعلن الأمين العام للأمم المتحدة ان اتفاق سلام الجنوب لا يسير وفق ما هو مطلوب وانه مهدد بالانهيار.

من جهة أخرى أعلنت الحركة الشعبية لتحرير السودان في ختام اجتماعات مكتبها السياسي بجوبا وعلى لسان النائب الأول لرئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب رصدها لتفاقم الاوضاع الانسانية والامنية في دارفور وقال بالحرف: ان الامر يتطلب تدخل القوات الدولية لحماية المواطنين من بطش ميليشيات الجنجويد طالما ان حكومة الوحدة الوطنية عاجزة عن حمايتهم ونوه الى اعتقاد شريكهم في الحكم المؤتمر الوطني بأنهم يعتقدون ان السلام لا يمكن ان يأتي لدارفور الا بالقوة العسكرية. بينما اشار الامين العام للحركة بتمسكهم بالتوجه نحو الديمقراطية وصون الدستور والحريات الصحافية، معلنا ادانة الحركة لحجر الحريات واستخدام العنف في تفريق التظاهرات السلمية. وجدد تمسكهم ايضا بتنفيذ البروتوكولات التي لم تنفذ بعد.

وهذا الحراك من الحركة الشعبية وما ظهر من تبرم من حركة دارفور الموقعة على الاتفاق لن يتوقف وسيتحول الى احتكاك ما لم يتدارك البشير الموقف ويقتنع بوجوب خلع ثياب الشمولية المفرطة التي تجسدت أخيرا في تفرده هو بالسلطة، فضلا عن القوى الأخرى المعارضة للنظام والتي سنتحدث عنها في مقال قادم.

وفي كل الأحوال يبدو ان السودان مقبل على تغيير أساسي، خياراته متعددة، أفضلها التحول السلمي الديمقراطي، وأسوأها الفوضى والتفكك، وبين هذا وذاك العسكرة من جديد!