السور الرديء

TT

وقف رجل أمام سور الصين العظيم وراح يتأمل هذه المعجزة المعمارية اللامتناهية. كانت الريح قوية لدرجة تستطيع معها «ان تقلع قرون قطيع من الماعز». واخذت تصفر في الازمان والقرون والغابرة، والرجل يتأمل في السور ويصغي الى صرصر الريح العاتية.

وتبين له بعد تأمل قليل ان السور لا يرد البرد ولا العاصفة ولا يحجب ضوء القمر ولا نور الشمس. انه سور معلق في الزمن. شاهد على الخوف من الآخر. شاهد على الخوف من ضعف الذات وقوة الآخر. والآخر هو المجهول. هو النوايا التي لا نعرفها. والنفوس التي لم نمتحنها. ولذلك يقدم الانسان على انشاء شيئين: قناع يخفي به حقيقة انفعالاته، وسور يرد به الاخطار والمخاوف المحتملة.

والسور ليس مرئياً دائماً. والريح ليست مسموعة دائماً. واحياناً تبدأ على شكل صغير، كما يقول ميشال طراد، في قصيدته المحزنة عن أم فقيرة تهدهد سرير رضيعها في البرد. ولكن برغم ان السور غير مرئي والريح غير مسموعة، لكننا ندرك بقوة الحواس انهما هناك. السور الذي لا يقي من العاصفة والعاصفة نفسها.

ارى في لبنان سوراً هائلاً مثل سور الصين يقوم يوماً بعد يوم بين الناس. سور من الكلمات الحادة والنوايا الحادة والخطاب الحاد والفرقة الحادة والمشاعر الحادة. رجال كثيرون، بألبسة مختلفة، وبشرات مختلفة وسن مختلفة، منصرفون جميعاً الى جمع الحجارة والطوب والكلس والحصى لبناء السور. وكلما أعلوا جزءاً منه وقفوا خلفه وشتموا الذين خلفه. والذين خلفه يبنون سورهم ويشتمون الذين خلفه. وقد دمرت اسرائيل المباني والطرق والجسور ولكن اللبنانيين يدمرون النفوس والآمال والافئدة وجسور المحبة. انهم يتخاطبون بما هو أدمى من الرصاص. والمتفرجون يصفقون لهم ويقرعون لهم الطبول ويهزجون فرحاً. وصوت العقل غائب. وصوت القلوب مداس ومسخور منه ومضحوك عليه. والداعون الى المصالحة يقرع لهم على التنك ويطالبون بالخروج من البلد. دون عودة.

السور العظيم، او الرديء، يرتفع. طوبة طوبة. حجر من هنا وحصاة من هناك. والريح تصفر. وثمة من يصفق لهذا المشهد. ولا مكان للوسطيين والمصلحين واهل الاعتدال ونحن في الطريق الى القدس. فقد رفع الدكتور فيصل القاسم يده اليمنى قبل ايام وصرفهم عن الوجود، هاتفاً: «اي عرب اعتدال، هؤلاء صفر على الشمال». الريح الريح، يقول جبران خليل جبران، واصفاً قدوم العاصفة.