المواجهة الحالية بين الفلسطينيين والإسرائيليين مرشحة للاستمرار من سنتين إلى ثلاث سنوات

TT

كأنها ممتدة على طول 53 عاما، تلك السنة التي تحمل صفة النكبة (1948)، فمعها بدأت «الدياسبورا» الفلسطينية، شعب طرد من بلاده ليتحول الى مجموعات بائسة في مخيمات في لبنان وسورية والاردن وفي الضفة الغربية وفي غزة.

بعض الاسماء تحمل لعنتها معها وتظل تلاحق المصابين بها. وكأن نكبة 1948 لم تكفِ، فتكررت بعد 19 عاما (1967) واصابت من جديد الشعب الفلسطيني. هذا العام وفي ظل انتفاضة متأججة، احتفلت «القيادة الفلسطينية» بذكرى نكبة 1948 بالوقوف ثلاث دقائق صمتاً مع اطلاق صفارات الانذار.

في غزة في الوقت الحالي، كل يوم هو نكبة. امس الاول، في ذكرى النكبة الاولى كان الاحياء يدفنون ستة قتلى، ويستعدون لدفن اربعة آخرين سقطوا في الذكرى بعد ان دخل جنود اسرائيليون الى مدينة بيت لحم فتبادل الطرفان الرمي بالذخائر الحية، وقال مراسلون صحفيون غربيون ان القوات الاسرائيلية اطلقت النار على متظاهرين فلسطينيين غير مسلحين في رام الله. ومع ذكرى النكبة، تلاشت كل آمال التوصل الى وقف لاطلاق النار مع رفض الحكومة الاسرائيلية رسميا تقرير لجنة ميتشل الدولي، الذي يدعو اسرائيل الى وقف بناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا يعني «قتل» احتمال ان يصبح التقرير اساسا لوقف اطلاق النار، لان الفلسطينيين يصرون على انهم لن يعودوا الى طاولة المفاوضات طالما ان بناء المستوطنات، مهما اختلفت التبريرات مثل ـ النمو الطبيعي ـ (كما يطرح شيمون بيريز) مستمر.

الاميركيون حتى الآن لم يوجهوا دعوة الى عرفات كوسيلة للضغط عليه كي يخفف المواجهات او يوقفها، ولكنهم ربما يعرفون انه غير قادر الآن على القيام بمثل هذا العمل، لان الالتزام بأوامره غير مضمون، لذلك، يرغب الاميركيون في ان يتخذ موقفا علنيا لتخفيفها. لكن، مع ذكرى النكبة، القى عرفات خطابا اكد فيه على حق الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة عاصمتها القدس، ودعا، بانتظار ان يتحقق ذلك، لمواصلة الانتفاضة.

الغريب في الامر، ان الخطاب بثه التلفزيون الفلسطيني في حين كان عرفات في مصر، وقد قبل الفلسطينيون بذلك، لانها المرة الاولى منذ ثمانية اشهر يخاطب عرفات مباشرة الشعب، ويقول احدهم: «عرفات يحتفل بذكرى النكبة في القاهرة والناس في الداخل يتظاهرون ويموتون. لا نعرف ما معنى هذا التصرف»؟.

العارفون يقولون ان هناك شرخا واسعا بين عرفات والشعب الفلسطيني، وان كان وضع العلاقة بينهما استقر الآن، اذ قبل اشهر كان اسوأ، لان عرفات بدأ يعطي انطباعا بقيادة افضل بسبب بعض اجهزة الامن، كأمن رئاسة العمليات الذي برز دوره في قيادة الانتفاضة. لقد كان عرفات في البدء راغبا في ابعاد الاجهزة الرسمية عن تفاصيل الانتفاضة، الآن صار عدد كبير من هذه الاجهزة يشارك بشكل انتقائي.

ومع استمرار الانتفاضة صار واضحا ان الاسرائيليين اتخذوا قرارا بضرب الاجهزة الامنية التابعة لياسر عرفات ـ هم يحمّلونه مسؤولية استمرار اطلاق القذائف ضدهم ـ وصاروا الآن يختارون الافراد كاهداف لهم. كما لوحظ انهم يستعملون تكتيكات مختلفة تشمل طائرات هليكوبتر رشاشة، لتنفيذ مهماتهم، والآن اصبح واضحا انهم يستعملون القوات الخاصة في عمليات سرية، لكن عرفات، الذي سافر الى القاهرة في ذكرى النكبة، لا يبدو مهتما بايقاف العمليات ضد اسرائيل ما لم يظهر لشعبه بانه حقق له شيئا وحصل له على ما هو مقبول، فبعد ثمانية اشهر من القتال وموت المئات من الشباب والاطفال، حتى الكثير لم يعد يرضي الشعب الفلسطيني.

الدكتور خليل الشقاقي يعتقد ان الطرفين، الفلسطيني والاسرائيلي، يستعدان للاستمرار في هذا الوضع لفترة طويلة. فالوضع الذي بدأ قبل اكثر من سبعة اشهر صار يتمتع بديناميكية يصعب ايقافها، وبالتالي يمكن للوضع الاستمرار لسنتين او ثلاث.

يؤكد الشقاقي قدرة اسرائيل على الحسم عسكريا خلال يومين لو ارادت. لكن لو فعلت لأقدمت على مخاطرة كبيرة، وبالتالي هي لا تريد اللجوء الى السرعة، لذلك قد يستمر الوضع حتى ثلاث سنوات. ولا يجد الشقاقي خيارات افضل امام الشعب الفلسطيني، وهذا لا يعني الوصول الى طريق مسدود، بل لان احدا لا يمكنه ان يطرح اي تغيير في الوضع، حتى لو كان هو الخيار الافضل منطقيا، فسياسيا لا يملك احد قدرة الاقدام على التغيير، وياسر عرفات ايضا لا يستطيع.

يقول الشقاقي: «لقد عرضوا عليه الخطة المصرية ـ الاردنية، وقبلها، لكن الاسرائيليين رفضوها، ومن دون طرح خطة مشابهة يستطيع ان يقبلها، فانه عاجز عن القيام بأي شيء». ويضيف الشقاقي: «في هذه الاثناء يرفض الاسرائيليون كل شيء، كما يرفضون الحسم، ويعتبرون ان عرفات غير قادر على تهدئة الوضع بالشكل الذي يريدونه وبالتالي لم تعد هناك فائدة منه لهم، ويريدون التخلص منه، لكن لو فعلوا هذا لانهارت الاوضاع دفعة واحدة وعادوا الى احتلال الاراضي. وهم هنا يخشون ان تنهار المنطقة كلها، ويصبح الوضع اسوأ. لذلك فان الوضع الحالي غير مستقر، لكن من الممكن السيطرة على مخاطره، وبالتالي قد يستمر لفترة طويلة». ويذكّر الدكتور الشقاقي بالانتفاضة الاولى، ويقول ان احدا لم يكن قادرا على السيطرة عليها. ولم تكن اسرائيل مستعدة لتقديم اي شيء حتى صارت حرب الخليج الثانية ثم عملية السلام ثم اوسلو. ويلحظ، انه مرت حوالي سنتين قبل ان تستطيع اتفاقية اوسلو وقف الانتفاضة.

وهذا يعني ان هذا الوضع يتمتع بديناميكية كافية للاستمرار طويلا، رغم التطورات التي تحصل، والطريق الوحيد لايقافه هو طرح جديد يرضى عنه الشارع فيعطي الجرأة لقيادته كي تتبناه وتدعو اليه. لذلك دعا عرفات في خطابه الى استمرار الانتفاضة وانهاء الاحتلال، لكنه في الوقت نفسه ابدى استعداده لقبول المبادرة المصرية ـ الاردنية التي لا تقول بضرورة استمرار الانتفاضة حتى انتهاء الاحتلال، «لكن عرفات مضطر ان يخاطب شعبه بلغة ويخاطب العالم بلغة اخرى».

ويوافق الدكتور الشقاقي على ان وضع عرفات صعب جدا، فهو لا يملك القدرة المطلقة على ايقاف ما يجري، «لكنني اعتقد ان الشارع الفلسطيني يقبل بالمبادرة المصرية ـ الاردنية اذا ساندها عرفات والتزمت بها اسرائيل».

تدعو المبادرة ايضا الى وقف المستوطنات الاسرائيلية، كما يدعو تقرير لجنة ميتشل، وقد رفضت اسرائيل الاثنين، مما يعني انها لن تنسحب من الارض، وكما يقول الدكتور الشقاقي، «وان الاوضاع ستستمر سنتين او ثلاثا».

ولا يرى الدكتور الشقاقي ان ايا من الولايات المتحدة او اوروبا او العرب قادر على لعب الدور الحاسم في الموضوع، كل منهم يُقدم دفعة من هنا او من هناك، والوضع الراهن لا يمكنه ان يتحرك بهذا الاسلوب، ثم طالما ان الطرف الفلسطيني وحده هو الذي ينزف ويتحمل فلماذا لا تتحمل الاطراف الاخرى استمرار الوضع؟ ومشكلة الطرف الفلسطيني ان لا قدرة لديه لطرح البديل. فالعبء الذي يتحمله الشعب الفلسطيني ليس ناتجا عن تفكير عقلاني، بل عن عدم وجود قدرة على اتخاذ خطوة بديلة.

لكن، ماذا يجب ان تكون الخطوة البديلة اذا قرر الطرف الفلسطيني اتخاذها؟ يقول الدكتور الشقاقي: «قد تكون الخطوة الدخول في حرب شاملة مع اسرائيل وتحريك القوات الفلسطينية كلها للدخول في حرب، وقد تدفع اسرائيل الى اعادة احتلال الاراضي او خطوة لتهدئة الوضع بالكامل. بامكان الفلسطينيين القيام بهاتين الخطوتين، وهما في اتجاهين معاكسين، تصعيد الوضع من الجانب الفلسطيني او تهدئته. واسرائيل تستطيع ان تقوم هي الاخرى بالخطوتين، لكن يُهيأ لي ان الطرفين غير قادرين على اتخاذ هذه الخطوات. لا توجد بوادر لذلك».

لكن، ما الذي يضمن ان الامور ستُحل بعد سنتين او ثلاث سنوات؟ يقول الشقاقي: لا ضمانات، اذ بعد هذه المدة قد نقول ان الوضع سيستمر من جديد سنتين او ثلاثا، انما ستكون هناك امكانية اخرى بعد هذه الفترة، قد تكون حدثت تطورات لا تعتمد فقط على الرأي العام، انما تطورات اقتصادية اجتماعية تكون قد افرزت قيادات جديدة قادرة على تغيير الوضع، وقد يبرز ائتلاف جديد في اسرائيل انما هذا لا يستثني حدوث تطور جديد غير مقصود.

ويقول الدكتور الشقاقي، انه في اللحظة التي بدأت فيها الانتفاضة ضاقت الخيارات امام القيادة الفلسطينية التي كانت مضعضعة وضعيفة نتيجة للفساد الذي انتشر فيها ولفشل عملية السلام في منح الفلسطينيين في الداخل اي انجاز. لذلك انتهى في اللحظة التي وقعت فيها الانتفاضة دور القيادة الفلسطينية واصبحت عاجزة عن القيام بشيء. ويضيف ان الامر الآن متعلق باسرائيل، فاذا ارادت الحكومة الحالية استمرار الوضع كما هو فانه سيستمر. الحكومة السابقة لم يكن من مصلحتها استمرار الوضع، كانت تريد التوصل الى اتفاق نهائي بوقف الانتفاضة وكذلك الطرف الفلسطيني الذي وضع كل ثقله في هذا الاتجاه، لكن فشل الاثنان، ومع سقوط حكومة ايهود باراك انتهى هذا الخيار، ثم جاءت حكومة يمينية ولم يكن امام القيادة الفلسطينية اي شيء اخر تقوم به سوى الوقوف في وجه الشارع، ولو حصل هذا لكان انتحارا.

ويقول الدكتور الشقاقي، ان حكومة ارييل شارون لا تبدو راغبة في تحقيق الموضوعين الرئيسيين المطلوبين فلسطينيا، وهما: اعادة الانتشار وايقاف الاستيطان.

ان استمرار بناء المستوطنات يعني الغاء نهائياً لفكرة الدولة المستقلة، وتدريجيا هذا ما يحصل، ويضيف: حتى لو انسحبت اسرائيل الآن من 90% من الاراضي الفلسطينية وبقيت المستوطنات وشوارعها الالتفافية، فلا يمكن ايجاد ترابط في الاراضي الفلسطينية. فحتى لو حصلنا على 90% من الارض الفلسطينية ستكون هناك حوالي 30 الى 40 منطقة فلسطينية منفصلة عن بعضها، وهذا يعني ان البناء الاستيطاني الحالي يمنع بناء دولة حقيقية من دون ان يتم تفريغ عدد كبير من المستوطنات، الامر الذي لن يقبل به شارون. وباختصار من اجل قيام الدولة، نحتاج الى تجميد الاستيطان وتفريغ المستوطنات واعادة الانتشار، وكلها امور يرفضها شارون.

من المؤكد ان ذكرى النكبة بأجوائها المأساوية تترك تشاؤما عميقا لدى الجميع، لكن في ظل الاستفراس الاسرائيلي غير العابئ بأي مبادئ او قوانين، بدأت تبرز اصوات اسرائيلية تدين القيادات الاسرائيلية التي حكمت منذ تأسيس اسرائيل حتى اليوم. واذا كان العالم يرفض الاصغاء للمعاناة الفلسطينية، فلعله لا يتردد في مراجعة ما تطرحه مجموعة من المؤرخين الاسرائيليين الجدد.

افي شليم، استاذ العلاقات الدولية في جامعة اوكسفورد، اصدر مؤخرا طبعة منقحة من كتاب له بعنوان «الجدار الحديدي» ـ ما بين اسرائيل والعالم العربي ـ وهو واحد من المؤرخين الجدد الذين اعادوا كتابة احداث 1948. يقول افي شليم: ان رفض اسرائيل قبول اي مسؤولية، حتى الاخلاقية النوع، لتشريد الفلسطينيين عام 1948 مشكلة حقيقية مستمرة. وفي هذا الاطار فان التوقيع على اتفاقية اوسلو عام 1993 كان نقطة تحول. فاتفاقية اوسلو طرحت القضايا التي برزت من جراء انتصار اسرائيل في حرب 1967، فخلال تلك الحرب احتلت اسرائيل الضفة الغربية والجولان وسيناء. لقد تجاهلت اتفاقية اوسلو بالكامل المشاكل الاساسية التي تعود الى الحرب العربية ـ الاسرائيلية الاولى، مثل حق عودة اللاجئين الفلسطينيين منذ العام 1948، ونتيجة لانهيار اتفاقية اوسلو فان الفلسطينيين عادوا الآن الى جذور الصراع.

في الكتاب «الجدار الحديدي» يحاول افي شليم تصويب تاريخ احداث 1948 بالحديث عن حق العودة للاجئين وبضرورة ان تعترف اسرائيل بدورها في تشريدهم. ويشارك افي شليم عدد آخر من المؤرخين الاسرائيليين الذين يرفضون تسويق المزاعم الاسرائيلية، وابرزها ان الفلسطينيين غادروا اراضيهم عام 1948 بكامل رضاهم. ويقول افي شليم ان الواقع عكس ذلك، وانه ليس وحده الذي يريد ابراز الحقيقة بل مجموعة «المؤرخين الذين راجعوا التاريخ»، فهم بطروحاتهم الواقعية يتحدون السرد الصهيوني لأصول الصراع العربي ـ الاسرائيلي. ويضيف، ان اغلبية النقاش ما بين المؤرخين القدامى والمؤرخين الجدد تتركز على ولادة دولة اسرائيل في اول حرب عربية ـ اسرائيلية. ويؤكد انه حدث طرد جماعي للفلسطينيين على ايدي الاسرائيليين عام 1948، وان اسرائيل تتحمل المسؤولية الاولى للتسبب في هذه المشكلة.

من المؤكد ان طرح المؤرخين الاسرائيليين الجدد يقترب من الطرح الفلسطيني القائل بضرورة اعتراف اسرائيل بما اقترفته كي تسهل الطريق امام الهدنة والمصالحة بين الشعبين. ويقول افي شليم: ان هذه هي النقطة الحاسمة، فما جرى ليس نقاشا بين المؤرخين او نقاشا بين الاكاديميين. فالرأي العام الاسرائيلي مهتم بهذا النقاش، لانه يصل الى عمق صورة اسرائيل. ويضيف، انه من ناحية الفلسطينيين، فان التاريخ الجديد يثير لديهم اهتماما حثيثا، ليس لكونه يكرر «بروباغندا» المنتصر (وهنا هو اسرائيل) بل لانه تاريخ حقيقي وصادق ويكشف الحقائق كلها من دون اقنعة، ويحدد بوضوح الطرف المسؤول عن الأزمة ـ النكبة.

ويخلص افي شليم الى ان للتاريخ الجديد دورا تثقيفيا يجب ان يؤديه بالنسبة الى الطرفين من اجل ان يمهد الطريق امام تفاهم اكثر بينهما وصولا الى المصالحة.