الدولة أولا..

TT

عندما كنا طلبة للعلوم السياسية، كان الفيلسوف الإنجليزي «توماس هوبز» الأبغض لدينا من كل فلاسفة السياسة والمجتمع. فقد كان هوبز يفلسف الدولة وسيادتها غير القابلة للتجزئة، والتي أطلق عليها اسم «الليفايثون» أو الوحش الخرافي، وكنا وقتها شباباً متخما بكافة أنواع الإيديولوجيات، لا نفرق بين أن تكون السلطة مطلقة أو السيادة هي المطلقة، أو أن يكون هذا الشيء لزوم ذاك الشيء، رغم أننا درسنا هذه المفاهيم كجزء من أبجدية علم السياسة، ولكن قاتل الله الأدلجة والأفكار المسبقة التي أعمت العيون حتى عن أبسط الأمور وضوحاً، فما بالك بمفاهيم تحتاج إلى صفاء عقل ورغبة في تعلم الجديد، وقد كنا وقتها مكتفين بما لدينا، فرحين بما أوتينا. لقد كان هوبز يرى في انعدام السلطة السياسية المركزية أو ضعفها، المنبثقة عن وحدة السيادة التي لا تتجزأ، فإنه لا يمكن لأي شيء أن يُنجز أو يحقق. فعندما تغيب السلطة المركزية نتيجة تضعضع السيادة، فإن المجتمع لا يعود مجتمعاً، بل يتحول إلى نوع من حالة «الطبيعة»، حيث الحرية المطلقة ملك الجميع، ولكنها حرية مدمرة حيث الكل في حرب مع الكل: حرية قتل وسلب ونهب وتدمير، وحيث الخوف هو الوجه الآخر للحرية. فالحرية دون سلطة مُنظِمة لا تعدو أن تكون الفوضى بعينها. بل أن هوبز يرى أنه لا وجود لشيء اسمه مجتمع دون سلطة قادرة وسيادة مطلقة آمرة.

كنا نرى أن هوبز لم يكن إلا منظراً للسلطة المطلقة والاستبداد، غير مقتنعين بتصنيف فلاسفة السياسة له على أنه المنظر الأبرز للرأسمالية الحديثة، والتي كانت البنية التحتية للحضارة التقنية المعاصرة، وما صاحبها من تغيرات وتطورات في السياسة والمجتمع. من بعد هوبز، جاء جون لوك وجان جاك روسو وغيرهما ممن يطلق عليهم «فلاسفة العقد الاجتماعي»، الذين، ومن بعد أن بسط «الليفايثون» أجنحته، وظفوا نظرية العقد الاجتماعي للتبشير بالديمقراطية وسيادة الشعب. والحقيقة أنه رغم التناقض الظاهري بين أفكار هوبز، الداعية إلى السلطة المركزية الواحدة، وبين أفكار لوك وروسو، الداعية إلى مشاركة العامة في اتخاذ القرار السياسي، فإن الجميع يكمل بعضهم البعض. فبعد أن رسخ هوبز مفهوم السيادة، والتي بلورها الفرنسي بودان لاحقاً، انطلق لوك وروسو وغيرهما في التنظير للمشاركة الشعبية ضمن سيادة واحدة، وبالتالي فإن السيادة ومفهومها لم تكن محور نقاش، بقدر ما كان النقاش حول كيفية ممارسة السلطة في ظل سيادة غير مجزئة، ومن يكون المصدر الشرعي لهذه السيادة: للشعب «ديمقراطية» أم للحاكم «سلطوية» أم للرب «ثيوقراطية» ، ولكن الجميع في النهاية يرجعون إلى نظرية العقد الاجتماعي طلباً للشرعية، أي ضرورة الرضا والإيجاب والقبول بين طرفي معادلة المجتمع السياسي: الحاكم والمحكوم.

حقيقة ليس المراد أن يكون التنظير المجرد هو الغاية، بقدر ما أن مثل هذا التنظير ضروري لفهم أوضاع راهنة في عالم اليوم، كما كان ضرورياً في عالم الأمس، وخاصة في عالم عربي معاصر، أشبه ما يكون بعالم هوبز في بريطانيا وأوروبا قبل قرون من الزمان، حيث الحالة هي ذات الحالة رغم اختلاف المكان، وحيث العلة هي ذات العلة رغم اختلاف الزمان. فالمشهد العراقي اليوم مثلاً هو تجسيد حي وشبه كامل لحالة الطبيعة التي تحدث عنها هوبز، حيث حرب الكل على الكل، وحيث حرية مطلقة هي الفوضى بعينها، في ظل غياب سيادة فعلية للدولة. الكل في عراق اليوم يدعي أنه المالك الشرعي للسيادة، والمخول الوحيد لاحتكار السلطة، سواء جاء هذا التخويل من مرجعية دينية أو أخرى دنيوية، أو كان بدافع من مصلحة ذاتية أو غيبوبة مذهبية، والنتيجة في النهاية هي هذا المشهد المأساوي. حقيقة كان النظام السياسي السابق محتكراً للسلطة، محافظاً على وحدة السيادة، ولكنه كان قامعاً لكل حرية، وليس الحرية السياسية فقط، فكان الاستقرار المتحقق في ظل القمع والكبت والقيد غير قادر على تفجير طاقات المجتمع في أي مجال وفي كل مجال، ومن هنا انتفت النتائج المرجوة من وحدة السيادة ومركزية السلطة، كما كانت بذلك تبشر نظرية هوبز، التي وإن كانت تُنظر للسلطوية في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية آنذاك، إلا أنها لم تكن أبداً تبشيراً بالشمولية، التي هي والحرية المطلقة وجهان لعملة واحدة: وأد كل عمل خلاق وأي عمل خلاق.

وفي لبنان الحرب الأهلية ولبنان الراهن، نجد صورة من صور حالة الطبيعة، وإن كان ذلك بشكل أقل من الحالة العراقية، ولكن لن يكون الأمر بعيداً عن الحالة العراقية إن بقيت الأوضاع اللبنانية متوترة في ظل نزاع ظاهر وخفي بين الفرقاء على احتكار سلطة حائرة، وادعاء ملكية سيادة تائهة، وفي النهاية لن يكون الوضع أقل من صراع هؤلاء الفرقاء، على مختلف أشكال هذا الصراع، أو تقسيم السيادة بينهم، والسيادة لا تقبل التقسيم، مما يعني تمزيق ذات الدولة، أو أن يهيمن أحد هؤلاء الفرقاء ويحتكر الدولة والسلطة بالقوة المجردة، وتبقى النار تحت الرماد حتى تأتي الفرصة المناسبة للاندلاع من جديد، كما حدث في الحالة العراقية منذ انقلاب 1958، والنتيجة في كل الأحوال ضياع الدولة، وقتل المجتمع، سواء بالرجوع إلى حالة الطبيعة، أو بنقيضها ومماثلها نتيجة حين تفرض الشمولية نفسها، ويبقى الضحية في الأول والآخر ذات الإنسان ونشاطه الخلاق.

والحديث عن الحالة العراقية والحالة اللبنانية ليس المقصود به إلا ضرب المثل، وإلا فإن حالة الطبيعة و«حريتها» المدمرة، والشمولية وبوليسيتها القاتلة، كامنة في جذور كل كيان عربي لم يستوعب أن يكون دولة قبل أي شيء آخر. فالدولة راسخة الجذور، وكي تكتسب هذه الصفة على وجه الاستمرار، يجب أن تكون مؤسسة على نوع من العقد الاجتماعي، أو لنقل الاتفاق الحر بين مختلف أطراف الكيان على هيكل وشكل هذا الكيان، وإلا فإن هشاشة العظام تبقى هي العنوان، ولا ينتظر الخطر إلا فرصة مناسبة للعبث وخلط الأوراق من جديد. فقد يشكل اتفاق الطائف في لبنان، أو وثيقة العمل الوطني في العراق وغير العراق، عقداً اجتماعياً مناسباً لتأسيس دولة والخروج من حالة الطبيعة بمختلف أشكالها ودرجاتها، ولكن كل ذلك رهن باتفاق أولي مفاده أن الدولة هي الأساس وهي مرجع الانتماء، وبالتالي فإن السيادة، كل السيادة لها دون غيرها من مرجعيات أو مصادر انتماء، وهنا تكمن معضلة أخرى من معضلات عربي العصر التائه.

فالعربي تائه حائر بين مرجعيات انتماء مختلفة، كل منها يجذبه إلى ناحيته، كما ريشة في مهب الريح. وإذا كان العالم قد حل إشكالية الانتماء هذه بالعودة إلى الدولة بصفتها المرجع السياسي الوحيد للانتماء والهوية، فإن العربي ما زال تائهاً بين مرجعيات كل منها يطلب منه أن يكون له دون سواه، فيقع التناقض المؤدي إلى التمزق فالضياع فالصراع. هذا الفريق يأمره أن يكون مسلماً فقط، وفق تأويل محدد لما هو مسلم وغير مسلم، وأن يكون وطنه هو عالم الإسلام على امتداد أطرافه، وذاك الفصيل لا يرى إلا انتماءً واحداً فوق كل انتماء، فيزجره إن لم يكن قومياً لا يرى العالم إلا من خلال ما بين الماء والماء، وفق أدلجة لما ينبغي أن يكون عليه النظر، وتبقى الدولة، حاضنة الوطن، هي الغريب والشاذ في كل هذه التجاذبات. ليس الخلل في أن تكون مسلماً أو إسلامي الهوى، أو عربياً أو عروبي الهوى، ولكن الخلل في أن يطغى انتماء على انتماء، أو تختلط الأوراق فلا يُدري أي انتماء هو الانتماء، وأي هوية هي الهوية، وخاصة إذا أُدلجت الأمور وسيست، فيكون تيهاً أين منه تيه بني إسرائيل. بإيجاز العبارة، وفي ظل كل ما قيل آنفاً، فإن عرب اليوم، على اختلاف مرجعياتهم، لم يستوعبوا بعد مفهوم الدولة بصفتها المرجع الأساس للانتماء السياسي، وتداخلت لديهم المفاهيم، فلم يعودوا يفرقون بين انتماء ثقافي أو انتماء ديني أو انتماء عرقي أو انتماء مذهبي أو انتماء سياسي أو انتماء وطني، فامتزجت الألوان واندثرت بامتزاجها، فكان المشهد هو المشهد.