المشهد الفلسطيني: خطة طموحة للخروج من المأزق

TT

أصبح المشهد الفلسطيني غير مستساغ، لا على صعيد الحصار الاقتصادي وحرب التجويع، ولا على صعيد الحوار الذي لا يصل إلى نتيجة حول حكومة الوحدة الوطنية، ولا على صعيد الشلل العربي الذي بدا واضحا في جلسات مجلس الأمن.

الحصار الاقتصادي الذي تقوده إسرائيل والإدارة الأميركية واوروبا، تحول إلى عمل عصابات يمارس على مستوى الدول، ووصل إلى حد تهديد البنوك بأنها ستدمر ماليا إذا هي لم تلتزم بالخطط السياسية لما يسمى باللجنة الرباعية. وتحول البنك المركزي الأميركي إلى حاجز مليشيا، يعترض سير الأموال القادمة من دولة ما لمساعدة الفلسطينيين، إذا ما تجرأت دولة ما على فعل ذلك. وتحولت إسرائيل إلى لص علني يحتجز أموالا هي بعلم الجميع أموال فلسطينية خالصة، إلى أن يتم إسقاط حكومة حماس.

وإزاء هذا الوضع العالمي العجيب، يتنطح ناطقون رسميون وغير رسميين لاحتلال واجهة المشهد السياسي، هم وبأبسط معايير السياسة، سياسيون من الدرجة العاشرة، يعتقدون أن الصوت العالي يؤهلهم للقيادة، ويطربون حين يعثرون على حجة منطقية تحرج الخصم، ولا يهتمون إذا كانت تلك الحجة تعقد الموقف أم لا. ويعتبر بعضهم الوقاحة خطة سياسية.

وينشغل بعض السياسيين بالنصوص، ويعتقدون أن انتزاع كلمة هنا وكلمة هناك من فم الخصم، سوف تحل لهم مشاكلهم مع الدول العظمى، ويغمضون أعينهم كما تفعل النعامة، عن المخطط المعلن لهذه الدول العظمى، والذي يتناقض مع أبسط ما يدعون إليه.

وتكون الحصيلة بعد هذا كله، حالة من الضياع، وحالة من الجمود في المكان، بينما تستمر حرب التجويع، ولا يستطيع الناطقون الرسميون وغير الرسميين أن يروا إلى الجهات التي تمارس حرب التجويع هذه، فيصبون جام غضبهم على حركة حماس، أو على رئيس الحكومة اسماعيل هنية، أو على وزير الداخلية سعيد صيام. مرة ... يقول الناطقون، إن الحل يكمن في العودة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، فهي الأساس وهي المرجع، وهي التي تقود وهي التي تفاوض، ولا دور للحكومة الفلسطينية سوى تصريف شؤون الحياة اليومية، ولا بد من تفعيل هذه المنظمة. لنقلب صفحة حول من هو المسؤول عن انهيار المنظمة وتلاشي مؤسساتها، ولنقف بحماس مع الداعين إلى تفعيل المنظمة، فماذا سنجد أمامنا؟ اجتماع تم عقده في القاهرة قبل عامين يدعو إلى تفعيل المنظمة، واجتماع تم بين الفصائل في دمشق قبل ستة أشهر وضع بنودا متفقا عليها لتفعيل المنظمة، واختيار مجلس وطني فلسطيني جديد، مع توافق على أن هذا المجلس سيتشكل على أساس قاعدة الانتخاب. واجتماع ثان وأخير، كان مقررا عقده قبل أيام (في 28/9/2006) في دمشق، للبت البهائي بالقرارات المتخذة ووضعها في سياق التنفيذ. ثم، وأخيرا، طلب من حركة فتح بتأجيل هذا الاجتماع إلى أجل غير مسمى، لماذا؟ لأن مفاوضات تشكيل حكومة الوحدة الوطنية متعسرة بين رام الله وغزة. وهكذا نكون قد دخلنا في حلقة مفرغة، فالحكومة مرفوضة لأن الأساس هو منظمة التحرير، وعلى منظمة التحرير أن تنتظر لأن الحوار مع الحكومة لم يصل إلى نتيجة !!!

ومرة ... يقول الناطقون، إن الحل يكمن في وثيقة الأسرى، ونغرق في سيل من التصريحات حول هذه الوثيقة المعجزة، وكيف أنها ستنتشل الوضع الفلسطيني من مأزقه، وما أن يتم الاتفاق حول هذه الوثيقة، وتبدأ بعد ذلك فورا مفاوضات تشكيل حكومة وحدة وطنية، حتى نفاجأ بزيارة يقوم بها القنصل الأميركي في القدس إلى مقر الرئاسة في رام الله، ليبلغ موقفا أميركيا يقول إن موافقة حكومة اسماعيل هنية على الوثيقة لا يكفي، ولا بد من موافقة معلنة على شروط اللجنة الرباعية الثلاثة. ويتعرقل بعد ذلك كل شيء، ويعود الناطقون الرسميون إلى لعبتهم المفضلة بتوجيه الانتقادات والاتهامات، ويبتسمون أمام كاميرات التلفزيون كلما توفقوا بإيراد حجة محرجة.

تبدو هذه الصورة مأساوية ومقلقة، ولكن من الأدق القول إنها صورة منفرة ومبتذلة، وتقدم صورة متدنية عن الأداء السياسي الفلسطيني.

يعاني الوضع السياسي الفلسطيني من مشكلتين، مشكلة الحصار وتوقف أموال الدول المانحة التي تتيح مواصلة إدارة مؤسسات السلطة، وفي المقدمة منها رواتب الموظفين. ومشكلة المشروع السياسي الوطني، والذي يتلخص بمفاوضات مع إسرائيل تفضي إلى دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على كامل أراضي 1967. فما هي الآفاق المتاحة لحل هاتين المشكلتين؟

نبادر ونقول إن حركة حماس، وإن حكومة اسماعيل هنية لا تملكان حلا مباشرا لهذه المشكلة، إذ لا يمكن لها أن تنتصر على حصار يمارسه ضدها العالم الغربي كله، مع ضرورة التوضيح هنا بأن هذا الحصار لا يقتصر على وقف مساعدات الدول الغربية، بل هو يشمل أيضا منع وصول أية مساعدات من دول عربية أو صديقة، من خلال تهديد البنوك بعدم التعامل مع هذه الأموال تحت طائلة تدميرها ماليا.

ونبادر ونقول إن حركة فتح تملك حلا لجزء من المشكلة فقط، فهي تستطيع أن تقول إنها إذا تسلمت السلطة، وكررت اعترافها بإسرائيل، فستعود أموال المساعدات الغربية، وسيتم دفع رواتب الموظفين، ولكن حركة فتح لا تستطيع أن تقدم أي وعد إيجابي بأن هذا الموقف سيفتح أمامها الطريق السياسي نحو إنشاء دولة فلسطينية. فإسرائيل لا تعرض إلا مساومة على نصف أراضي الضفة الغربية، وواشنطن تؤيد إسرائيل في هذا الموقف، والحصيلة، إذا تم الأخذ برأي فتح، أن السلطة الفلسطينية ستتحول إلى إدارة ذاتية تعمل في خدمة مشروع الاحتلال الإسرائيلي، وأن المشروع الوطني الفلسطيني سيضيع تحت الأقدام.

هل من وسيلة للخروج من هذا المأزق؟ مأزق حماس المالي، ومأزق فتح السياسي؟

نعم ... هناك وسيلة للخروج من هذا المأزق، ولكنها وسيلة نضالية، تحتاج إلى رؤية طموحة تليق بالقضية الفلسطينية، وتليق بطموحات الشعب الفلسطيني، وتليق بتضحياته الضخمة. وهي رؤية تحتاج أيضا إلى إرادة نضالية. وهناك أوساط فلسطينية عديدة، من داخل فتح ومن خارجها، ومن داخل حماس ومن خارجها، تتداول حاليا بهذه الصيغة، وتفكر ببلورتها وطرحها للحوار والنقاش. وملخص هذه الصيغة إن الوضع يحتاج إلى قيام تحالف نضالي بين حركتي فتح وحماس، تنضم إليه جميع الأطراف السياسية الفلسطينية الفاعلة. هدف التحالف فلسطيني وليس إسرائيلي أو أميركي أو غربي. هدف التحالف شن حملة سياسية وإعلامية ضد الحصار وضد حرب التجويع الذي تمارسه إسرائيل والولايات المتحدة والدول الغربية ضد الشعب الفلسطيني، ومن أجل إخضاعه لحلول سياسية مرفوضة، مع التركيز بشكل خاص على الحصار البنكي الذي يمنع الأطراف العربية والصديقة من إيصال أية مساعدة للشعب الفلسطيني. ويقتضي النجاح بشن هذه الحملة السياسية والإعلامية، توجه فلسطيني مواز من أجل بناء ضغط عربي مماثل ضد الحصار وحرب التجويع، على أن يركز هذا الحصار بدوره على موضوع الحصار البنكي، وتحديه من أجل التغلب عليه.

وهناك إجراءات عملية أخرى يجري نقاشها من أجل استكمال هذه الخطة، منها:

أولا: أن تضع السلطة الفلسطينية خطة لتقليص عدد الموظفين العاملين في إطار السلطة الفلسطينية، وإعادة العدد الأكبر منهم إلى أطر منظمة التحرير الفلسطينية التي جاؤوا منها، باعتبار أن منظمة التحرير تتمتع بحرية حركة مالية أوسع من الحكومة الفلسطينية.

ثانيا: التفاوض مع الدول العربية والطلب منها بأن تستوعب جزءا من البطالة الفلسطينية في الضفة وغزة، للتخلص من السيف الإسرائيلي المسلط على رقاب الفلسطينيين في هذه المسألة. فإضافة إلى معالجة مشكلة البطالة، فإن الفلسطينيين الذين يعملون في الدول العربية يقومون عمليا بإعالة أكثر من عائلة واحدة.

ثالثا: إعادة النظر في الاتفاق الاقتصادي المعقود مع إسرائيل منذ العام 1993، وبلورة اتفاق اقتصادي جديد يربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد العربي، بدلا من الوضع القائم الذي يربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي. مع ملاحظة أن الاتفاق نفسه ينص على إعادة النظر به كل عام.

رابعا: ورابعا هذه، هي مربط الفرس، والنقاط الثلاث السابقة هي تمهيد له، وفحواها تعاون الجميع في وضع وتطبيق خطة فلسطينية للتنمية، وإنشاء سلسلة من المشاريع التي تؤدي إلى تشغيل الناس، وتحريك الرساميل المحلية، وزيادة الانتاج والتصدير. ويكون هذا هو المدخل الطويل الأمد للتخلص من الحاجة اليومية إلى مساعدات الدول الغربية المانحة، وتحويل من يريد الاستمرار في تقديم المساعدات إلى مجالات التنمية لا إلى مجالات الصرف اليومي على شؤون الوزارات.

حسب منهج من هذا النوع، يمكن مواجهة الأزمة الفلسطينية الراهنة، ماليا وسياسيا، وليس ماليا فقط. وحسب هذا المنهج يمكن بناء تعاون مستقبلي فعال بين حركتي فتح وحماس. وحسب هذا المنهج يمكن إعادة إحياء المشروع الوطني الفلسطيني. وحسب هذا المنهج يمكن التخلص من جيش الناطقين الرسميين وغير الرسميين وحججهم وابتساماتهم السمجة أمام عدسات التلفزيون.