متى يخرج العراق من غرف الاختناق؟

TT

في الوقت الذي اعتقد البعض أن حلول شهر رمضان ربما يجلب اتفاقات ضمنية وتقييدات ذاتية من قبل قوى العنف وتلك المتصارعة على المسرح العراقي، بما يحفظ للعراق دماء المسلمين ويجعلهم يتمتعون ولو لأيام قلائل بنعمة الأمن والاستقرار التي تعيش بها شعوب الارض، وان تعصم دماء المواطنين الأبرياء في هذا الشهر الكريم، وفي الوقت الذي منى الناس أنفسهم بأن آمالهم ستلقى استجابة، كون القوى التي حملت السلاح وانتهجت أساليب القوة هي ذات مرجعيات إسلامية وتبرر منهجها بدوافع عقائدية، إلا أن واقع العنف على الارض أجهض هذه الآمال المؤقتة. بل ارتد عليها عكسيا عندما حمل أرقاما بأن العمليات الانتحارية والتفجيرات في الأسبوع الأول من رمضان بلغت معدلات هي الأعلى منذ سقوط النظام، وهذا ما يفسر التقاطع بين آمال عموم الناس المتقربة الى الله بطاعاتها وعباداتها وسعيها في الأرض لعمارتها في هذا الشهر الكريم، وبين من يتقرب الى الله بدمائهم ويستعجل الجنة على أشلائهم.

إلا انه على الجانب الآخر في المشهد السياسي، والذي وإن خيّم عليه دخان المتفجرات وضجيج العنف، فقد استطاعت القوى السياسية ان تجتاز قضيتين أساسيتين تمثلان مفترقات حادة كانت تهدد بتقويض العملية السياسية برمتها، وإفراغ البلد من المنجز الوحيد المرئي، وهو ثبات واستمرار تقدم العملية السياسية رغم الشراسة والحدة المستهدفة لها. اولاهما قضية الفيدراليات التي شهدت تقاطعات حادة في الرؤى تجاهها، بل هددت بانقسام القوى الأساسية في البرلمان العراقي، وربما الانسحابات من العملية السياسية التي تؤدي بها للعودة الى المربع الاول، إلا ان القوى السياسية أثبتت رغبتها وقدرتها على إيجاد التفاهمات واستمرار الركون الى التوافقات والقبول بما تفرضه الديمقراطية، اي حلول منتصف الطريق، رغم أن غالبية الائتلاف المتفقة مع التحالف الكردستاني كانت تستطيع ان تمضي بإقرار مشروعها للفيدراليات وفق رؤيتها، وان غالبيتها البرلمانية تتيح لها تمريره، ولكنها أدركت مثل هذه القرارات، وان اتاحتها لها قواعد الاغلبية والأقلية، إلا انها لا تتيحها لها قاعدة الشراكة في الوطن التي تستوجب ان تكون قراراته المصيرية برضا مكوناته.

من هنا كانت التنازلات المتقابلة لجهة القبول بمناقشة وتشريع قانون تنظيم الفيدراليات (اي الاقاليم) مع تأخير العمل بتطبيقه لثمانية عشر شهرا، وهذا التأخير نزولا عند رغبة الطرف السني الرافض وبتفاوت للفيدرالية ولتطمين مخاوفه، مع أن مثل هذا الواقع سيكون وقتا مستقطعا آخر وأخيرا للسنة بأن يثبتوا ويعملوا على توفير مقدمات حقيقية على صحة نظريتهم في العراق الواحد المركزي.

والقضية الثانية التي اجتازها البرلمان العراقي وكتله السياسية، هي تشكيل لجنة إعادة النظر بالدستور، والتي كان يؤخر الى الآن تشكيلها الخوف من تفجير صراعات وتقاطعات سياسية تنعكس على شارع ووضع عراقي لا يحتملها. والى ذلك تم إقرار تشكيل هذه اللجنة وبتزامن مع القراءة الاولى لمشروع الفيدرالية ضمن صفقة بين القوى السياسية، وخصوصا بين التوافق السنية المصرة على اعادة النظر بالدستور، وبين الائتلاف الشيعي المتبني للفيدراليات. ورغم ان ذلك سيفتح الابواب لإعادة النظر في القضايا الخلافية في الدستور، إلا أنه سيدفع لاصطفافات جديدة وتحالفات بين قضايا ستظهر خصوصا لجهة انتماء العراق وتوزيع موارده وإدارتها، والتحكم بالمصادر المائية وللعلاقة بين الاقاليم والمركز. وقد بدأت نذر ذلك تلوح عندما استبق الكرد، الرافضون لتقليل مكاسبهم الدستورية، والذين يخشون من ان يدفعوا ثمن التوافقات السياسية، فابتدأوا بمسألة العلم والسيادة والرموز، ثم أعقبها بأيام قلائل طرح دستور للإقليم على برلمان كردستان يتضمن خارطة لكردستان تلحق بالإقليم فضلا عن كركوك، ومناطق من محافظات الموصل وصلاح الدين وديالى وواسط، والثالثة أثيرت حول السيطرة على الموارد، إذ انهم هددوا الحكومة المركزية بالانفصال إذا ما تدخلت في إعادة النظر بعقود استخراج نفطية أبرموها متكئين على فقرة الدستور التي أتاحت للإقليم إدارة الموارد التي ستكتشف، وجعلت ولاية الحكومة المركزية فقط على الموارد المكتشفة حاليا. وهذه المادة تحديدا تعتبر في صدارة أولويات المواد الواجبة التغيير عند السنة، لأنهم الأكثر تضررا منها لافتقار مناطقهم للموارد، ولاعتقادهم بأنها ستكون بابا خلافيا مشرعا دائما، ولذا فانهم لايطمئنون إلا عندما تدار جميع الموارد وتوزع مركزيا من بغداد.

إلا انه رغم ان الدستور عقد اجتماعي يجب ان يحظى برضا الجميع، وان العراق يراد له ان يؤسس على قاعدة المشاركة لاختلاف مكوناته، فان الاوزان السياسية تظل هي الفيصل عند التفاوض. وهذا ما يستدعي من الأطراف الراغبة في تغيير الدستور، ان تؤسس لتحالفات جديدة تدعمها على الارض رغبات صادقة وعمل جاد على محاربة العنف، وان لا تظل رجل مع الحكومة والأخرى مع القوى التي تريد تقويضها. وان تكف عن ان تتملق شارعا مأزوما أثبت لثلاث سنين أنه لا يعرف مصلحته. ومن هنا وبخلاف مثل هذه التحالفات، فانه لا وزن لقوى التغيير في لجنة إعادة النظر في الدستور، يمكن لها أن يؤهلها لتمرير رؤاها، ولا نسبتها في البرلمان تتيح لهم ذلك لاحقا، ولا تستطيع تخطي عقبة رفض ثلثي ثلاث محافظات عند الاستفتاء.