المؤمنون حلويون

TT

المعروف عن رمضان الشريف أنه شهر الخيرات، الشهر الذي تكثر فيه الولائم والدعوات والضيافة وتوزيع الطعام. ما ان يقترب وقت الفطور حتى ترى الناس يحملون صحون المأكولات، يركضون بها من بيت الى بيت، ليتهادوا مع الجيران والأقارب ويتصدقوا على الفقراء. هذا هو موسم الطفيليين الممتهنين. وهم على أصناف. هناك صنف النخبة من الطفيلية، وهم الأدباء والشعراء والعلماء الذين يخفون الى الولائم الرسمية والبرجوازية المترفة. ومنهم صعاليك الطفيلية، صنف الغلابة والمساكين الذين يقضون نهارهم يتسقطون اخبار الولائم ويبتكرون أبرع الوسائل والذرائع لأخذ حصتهم من هذا الشهر الكريم. كان من أمثلة الطائفة الأخيرة، الطفيلي النبيل شعوبي ابن السيد ابراهيم في الاعظمية، ديرة الامام ابي حنيفة من بغداد. كان من المعتاد في ايام رمضان ان يمتلئ سوقها بصينيات البقلاوة والقطايف والزلابية ونحوها من الحلويات اللذيذة المعروضة للبيع بجوار حائط المسجد. وكانت العادة ان يضع البائع طاسة مليئة بالشيرة، ذلك المزيج الكثيف من مستحلب السكر وماء الورد والهيل والمطيبات. اعتدنا على الهيام بها، نلطعها ونتلحس ونمطق بها. يصب البائع شيئا منها على ما نشتريه من المعجنات الحلوية لزيادة حلاوتها وتحسين طعمها.

بالطبع لم يكن باستطاعة السيد شعوبي الضعيف الحال ان يشتري شيئا من ذلك. ولكنه ما ان يسمع بالمؤذن يؤذن منارة الامام الاعظم لصلاة المغرب اعلانا بالفطور، حتى ينبري الى السوق مع اثنين او ثلاثة من جماعته. يقفون قريبا من بائع البقلاوة ويدخل شعوبي معهم في جدال حول أي موضوع يخطر في باله. ثم يتعصب في ما يقول، ثم يصرخ من باب اليمين والقسم فيقول: «وحق هذي نعمة الله».. ثم يضع يده على صحن الشيرة ويغمسها بها. ثم يخرجها مضرجة بهذه الشيرة اللذيذة ويلطعها معتذرا للبائع.

وبعد ان يكون قد اخذ حقه من شيرة البقلاوة يذهب الى مقربة من بائع القطائف ويفتعل نفس المجادلة السفسطائية عن مجرى الحرب وما سمعه من راديو برلين ويونس بحري ثم يتعصب برأيه بهزيمة الحلفاء فيصرخ حافلة حابه: «اسمعوا هنا.. وحق هذي نعمة الله...»، ويغمس يده في شيرة القطايف، يلطع ما علق بها من الشيرة اللذيذة، يعتذر للبائع وينتقل الى شيرة البقلاوة!

لا ينتهي من جولته في السوق الا ويكون قد اخذ حقه من أطايب أكلات شهر رمضان الشريف. بالطبع، لاحظ الباعة المتجولون ذلك منه، وتضايقوا من امره. عقد احدهم عزمه على وضع حد له. ما ان دخل في المجادلة المألوفة وصاح «وحق هذي نعمة الله...» حتى مسك البائع بيده وقال له: «اخويه شعوبي، روح احلف القسم على رغيف الخبز هناك. هذي نعمة الله المضبوطة. الخبز , وليس البقلاوة والقطايف!» ويشير الرجل الى بائع الخبز حسون ابن سليمة الخبازة. ولكن شعوبي ككل الطفيليين المحترفين في التاريخ الاسلامي كان لبق اللسان، حاضر البديهة. ما ان سمع اعتراض بائع البقلاوة حتى رد عليه قائلا: «المؤمنون حلويون يا ابو فطومة! المؤمنون حلويون!»

واثناء ذلك يكون شعوبي ابن السيد ابراهيم، قد غطس يده في طاسة الشيرة اللذيذة ولطعها وهو يمطق بها بلسانه وشفتيه: «الحمد لله والشكر لله وحده. قول ويايه يا ابو فطومة، الحمد لله والشكر لله وحده. هذي ايام رمضان المبارك».

وكان رمضان الشريف وكانت ايام حلوة في بلد الأئمة والأنبياء وراحت.