في منع المسلسلات وشتم الفن.. هواجس لا معنى لها

TT

اللغط حول الفن، وجداوه، أصبح وجبة سنوية لدينا، مع إطلالة كل رمضان، الذي يعتبر الشهر الذهبي للفرجة التلفزيونية.

رمضان، من هذه الزاوية، أصبح ظاهرة عربية، وحالة فريدة، والبون بينه وبين بقية الشهور في كمية و«كيفية» الانتاج الدرامي، بون كبير وفجوة واسعة.

في الرمضانات السالفة، كانت الكوميديا الاجتماعية عبر اللوحات السريعة والحلقات المنفصلة هي السائدة من «مرايا» ياسر العظمة و«بقعة ضوء» في سوريا، الى مسلسل «خذ وخل» و«طاش» السعوديين، وحتى في الاردن من خلال الثنائي صوالحة ويانس. بل وحتى في العراق، الذي يعاني ما يعاني، يعرض على قناة «البغدادية» مسلسل كوميدي بعنوان العولمة، يسخر من كل شيء يجري. هكذا كانت النكهة الرمضانية منذ حوالي 13 سنة، ومنذ 5 او 7 سنوات اضيفت الجرعة التاريخية، بدايتها كانت من الفانتازيا التاريخية التي اشتهر بها المخرج السوري نجدت انزور، حيث ترى كثيرا من الاصباغ وكميات من الكحل والصلعات والدخان والسيوف في اللامكان واللازمان من «الكواسر» الى «الجوارح».. وبعد ان تعب المشاهد من التحليق في المجهول، جاءت فترات «الحواديت» التاريخية، وكانت الدهشة الاولى مع مسلسل «الزير سالم» الذي دغدغ مشاعر الفتوة والكرامة لدى المشاهد العربي، وانفرطت السبحة ودخلنا في الحقبة الاندلسية، المثيرة للحنين، من «صقر قريش» الى «ربيع قرطبة» الى «ملوك الطوائف».. وانفتح كتاب التاريخ، لتغرف منه مغارف الكتاب والمنتجين.

ثم جاءت موجة «الارهاب» وتعقيداته، فكان للدراما والفن في هذا الميدان إسهام. في العام الفائت عرض مسلسل «الحور العين» على الـ «إم بي سي»، وثار غبار الجدل حوله، حتى حجب العين عن رؤيته قبل بثه! وبث المسلسل، فكان الغبار المثار اكبر منه بكثير! ومضى، ليأتي سوق رمضان الحالي، الذي يتبارى فيه المنتجون والكتاب والممثلون والفضائيات في عرض الجديد، كما شعراء عكاظ قديما. هناك اكثر من عمل حول الارهاب هذا الموسم من «مسلسل دعاة على ابواب جهنم» على شاشة ابو ظبي الى «المارقون»، وغيرهما، غير أن الذي اثار حنق كثيرين في السعودية، إلى هذه اللحظة، ليس مسلسلا مكونا من ثلاثين حلقة، بل حلقة مدتها حوالي 20 دقيقة، من احدى حلقات السلسلة الكوميدية السعودية الشهيرة «طاش»، الحلقة كانت بعنوان «إرهاب اكاديمي» كتبها الكاتب السعودي عبد الله بن بجاد العتيبي، وقدمها نجما طاش ناصر القصبي وعبد الله السدحان وبقية النجوم بقالب ساخر وكوميدي، خصوصا من خلال كاركتر «فؤاد (الطيوب)» الذي يعرفه المشاهد السعودي جيدا من خلال عشرة طويلة مع كاركترات «طاش».

العمل خلق جدلا، واثار غضبا، بحجة انه «تجرأ» في النقد، وبالغ في السخرية، طبعا هذا هو المستوى «العاقل» من الرد، لكن هناك حملة تشويه وكراهية اخرى في الانترنت، وفي بعض المساجد، ضد فريق العمل، فقد حدثني بعض الاصدقاء من السعودية عن بعض المساجد التي يدعو أئمتها، في صلوات التراويح، بحماسة وحنق، على فريق «طاش» بالويل والعذاب الدنيوي والآخروي، اضافة لتجديد بعض الفتاوى الفائتة ضد العمل. البعض في السعودية، وفي غيرها ايضا، لم يتعود على النقد. والفن، وخصوصا الفن الساخر فهو شكل من اشكال ممارسة النقد، لم يتعود عليه هؤلاء، فيشعرون ان الامر هو هدم وإلغاء وحرب، وشيء كبير و«خطير» من أعداء الاسلام... وما شابه من كلام كبير. والامر غير ذلك، فليست حلقة واحدة هي التي ستغير الوضع، او تهدد الفضيلة، إن كان الخوف عليها، أو صدقنا فعلا، أن هذا المسلسل او ذاك اخذ على عاتقه حرب الفضيلة! فليطمئن كل من يخاف، فالفن، المشاهد منه والمكتوب والمسموع، لن يقلب الامور، أو يغير ما هو موجود، لأن هناك آليات اجتماعية وشروطا تاريخية هي التي تقوم بذلك، وليس الفن منها، بقدر ما أنه معبر عنها. فهذه هوليود انتجت وتنتج دوما افلاما تنقد العنصرية ضد السود أو ضد النساء او ضد اليهود، ولكن هذه العنصرية لم تختفِ، ولها انصارها وجمعياتها. الفن ينبه ويثير الجدل، وينقل الحديث المخفي خلف الكواليس الى العلن، وهذا أصح وأجدى من أحاديث الغرف المقفلة.

نحن نعرف أن الكل في السعودية، كلا من زاويته، يتحدث عن الارهاب وثقافته، وعن مشكلة المراكز الصيفية وعن المناهج وعن وجود فتاوى متشددة ضد المرأة، بل إن هناك شيوخا وفقهاء ايضا ينتقدون حالة الخوف من نقد ثقافة التعصب، ولكنهم يؤثرون السلامة والبعد عن تجريح الاخرين واتهاماتهم، خصوصا مع فضاء انترنتي لا يراعي حرمة ولا خصوصية، ويخوض في حياة الناس بلا حدود. كل هذا الجدل والتحسس من هذه الأعمال الابداعية، يجعل المرء يحار: الى هذه الدرجة وصل بنا الضيق؟! مع ان النقد افضل خدمة يمكن تقديمها لأي طرف، فردا كان او مجموعة، حتى يعرف مواطن الخلل فيعالجها، بدل ان ينام على علته، ويخدر نفسه بوهم الصحة والسلامة، في حين ان البلاء يتنامى ويكبر، حتى يصل الى درجة لا علاج معها.

الغريب أن هذا الوجل وضيق العطن، لم يقتصر على انصار التيار الاصولي، بل حتى بعض المثقفين، ناهيك من الدول ـ وهذا شيء متوقع منها ـ لكن أن يقف مثقف رقيبا على فيلم او راوية، بحجة ان هذا العمل تعدى على حرمات تاريخية او مسلمات معينة (مسلمات من؟!) فهنا الغرابة حقاً. هذا هو الشيء الذي فاجأني وأنا اقرأ البيان المنسوب الى ما سمي بـ«الأسر العباسية» في السعودية وخارج السعودية، التي تحتج فيه على مسلسل «الامين والمأمون» المعروض على شاشة الـ«إم بي سي» هذه الايام، بحجة انه يشوه صورة هارون الرشيد وانه يناصر رواية زواج العباسة من البرمكي، وهذه كما يرون فرية تاريخية.. وكل هذا الكلام المعروف. المدهش ان ممّن وقع البيان الدكتور يحيى جنيد امين عام مركز الملك فيصل للدراسات، وهو مركز راقٍ وعظيم في السعودية قدم للباحثين خدمات رائعة، وهو رجل بحث وعلم له قيمته ووزنه، والغريب ان الدكتور يحيى لم يكتف بالتوقيع بل تبنى البيان بحجة ان العباسيين ما زالت لهم ذرية تغار عليهم ؟! أيعقل هذا الكلام من عالم وباحث ؟!

لكن.. اذا كانت الفترة العباسية الموغلة في التاريخ محرمة او مشروطة بطريقة تناول محددة، فكيف نستغرب منع مسلسل «اسد الجزيرة» الذي كان يفترض ان يعرض في رمضان الحالي على شاشة الكويت عن سيرة الشيخ مبارك الصباح او مبارك الكبير كما يلقب، مؤسس الكويت الحالية؟ وكان من المفروض ان يتناول المسلسل الفترة التي امتدت من عام 1896 وحتى عام 1915، وهي مليئة بالاحداث في داخل الكويت وفي العراق وفي إيران من خلال الشيخ خزعل، وايضا فترة بدايات الملك عبد العزيز، وايضا فترة القلاقل والصراعات داخل الجزيرة وعلى اطرافها، بكل احداثها وشخصياتها، وهي احداث وشخصيات لم تخترع، فهي موجودة في التاريخ، بصرف النظر عن رغبة اي وجهة نظر تريد اعتماد تفسيرها هي فقط للحدث وتحدد كيفية تناول الشخصية. المسلسل منع، بسبب اعتراضات اطراف داخل الكويت ترى انه لا يجوز تقديم هذا الحدث او ذاك، الذي يتعلق بأجدادهم، بالطريقة التي سيقدمها المسلسل، العمل تعثر طبعا، ولا ندري ماذا سيحدث له، مع انه كان ـ حسبما أعرف ـ اول تناول درامي بهذا الطول لجانب من تاريخ الجزيرة العربية والتاريخ الخليجي الحديث. اقول ذلك، وانا غير معني بخلاصات المسلسل التي سيصل اليها، وربما سأختلف معها او مع بعضها، الفكرة هنا ليست في الاصطفاف خلف ما قاله هذا المسلسل أو الفيلم او تلك الرواية، هذه قضية فرعية وطبيعي فيها الاختلاف او الاتفاق، الفكرة هي في المبدأ: مبدأ حرية الابداع، وايضا مناقشة هذه «الحساسية العالية» عندنا، خصوصا في مسائل التاريخ، ما المانع من ان يقدم اكثر من تفسير لحادثة تاريخية واحدة، ناهيك من حقبة تاريخية مثل حقبة العباسيين، او مرحلة تاريخية مثل مرحلة مبارك الصباح، ما الذي يمنع ذلك؟! في تقديري أن النشر هو الكفيل بتصحيح الاغلاط، وان يصحح العمل نفسه بنفسه، كما حصل، مثلا، مع فيلم «الاسكندر المقدوني» الذي عرض أخيرا، وتعرض لنقد من مؤرخين بسبب اغلاطه التاريخية .. لكنه لم يُمنع.

دعوا التاريخ في النور، دعوه بكل اوجهه وتفسيراته، لأنه اذا لم يعرض في النور فلن يراه العلماء وأهل التاريخ والجمهور، ومع ذلك فإنه لن يغيب ايضا بل سيذهب للزواريب ويتولى تقديمه «الحكواتية المسيسون»، وستنمو الرواية التاريخية في هذه الحالة نموا مضخما ومشوها تحت وطأة شعور رواتها بأنهم حماة «الراوية الحقيقية» والسر المخزون، والامثلة كثيرة على كتب حين أجيزت للعلن وإذا بها ليست الا سلة من الترّهات والاغلاط التاريخية، لكن هذا الكشف لم يعرف الا حينما عرض العمل لنور العلن وأشعة الكشف العام..

بكل حال، اننا اذا ما بقينا نهلع من نقد تاريخي او اجتماعي أو سياسي، كل هذا الهلع، ونجلب بخيل البيانات ورجل الفتوى، إذا ما بقينا على هذه الحال، فإن ذلك مؤشر ضعف لا قوة، ودلالة هشاشة لا صلابة .. الاقوياء فقط من يقبلون النقد.. ويبحثون عن أجوبة اخرى حتى يروا الصورة كاملة، فالصورة الكاملة هي الصورة الحقيقية، والحقيقة هي معدن القوة الدائمة.

[email protected]