«الوحدة الوطنية» غطاءً لسياسة «فرّق تسد»

TT

هل تابعتم الشأن اللبناني خلال الأيام القليلة الفائتة؟ وهل استمتعتم بأجواء رمضانية من نوع آخر قرّبت لبنان الجريح خطوة إضافية نحو الفتنة التي يحلم بها ويسعى إليها كثيرون من أهل الدار؟

قبل أسبوع حاولت عمداً تفادي مناقشة الكارثة المنشودة بإلحاح، محاولاً الحث على شيء من التعقل. إلا أن أولويات الأطراف المعنية داخل لبنان وخارجه تبدو في غير هذا الاتجاه. فالبلد المنقسم على نفسه مصرّ على الانتحار الجماعي. مع هذا هناك إيجابية واحدة يمكن للمتفائل تسجيلها وسط الصورة البائسة هي أن النيّات المبيتة صارت علنية، وما عاد أحد بحاجة إلى التخفي وراء التآخي المزيف. وكان آخر الغيث إسهام النائب ميشال عون في كشف المستور... غير المستور.

فكَي لا يُتهّم عون بأنه رجل مقصّر في تعصبّه لمسيحيته وهو الذي يعتبر نفسه التجسيد الحي للسيف الماروني الذي لا يلين، شن «الجنرال» هجوماً كاسحاً ضد أعدائه الثلاثة: موارنة سمير جعجع ودروز وليد جنبلاط وسنة سعد الدين الحريري وفؤاد السنيورة. وكان سلاحه الفولكلوري الجاهز تهم «الفساد» ضد الخصوم وكأن الجميع فاسدون إلا هو (؟)، وتقصير الحكومة لأنها لم تستعن بخدماته وخبراته السياسية و«التحريريّة» (؟)، ومعاناة مهجّري «حرب الجبل» المسيحيين التي يعتقد أن إثارتها طائفياً سيفيده على صعيدي تجريم جنبلاط والغمز من قناة جعجع ... وبذا يتيسّر له تحريض قاعدتي جنبلاط وجعجع إحداهما على الأخرى، وهو الأسلوب الغرائزي التحريضي ذاته الذي انحدر إليه رئيس الجمهورية في حربه المفتوحة ضد الأكثرية النيابية و«قوى 14 آذار».

عون همّه محاولة استعادة زمام المبادرة على الساحة المسيحية التي يخشى أن تفلت منه نتيجة تحالفه مع «حزب الله». وهو متحرّق لقطف ثمار هذا التحالف المفتعل قبل أن يفعل منطق الأمور فعله، فيكتشف «المهدوي» الشيعي المؤيد لـ«حزب الله» واليسوعي المسيحي المسكون بـ«قداسة» عون استحالة الإبقاء على معادلة تناقضية بين متطرفين قامت أصلاً على اعتبارات تكتيكية كيدية، مدعومة خارجياً، هدفها ضرب القوى المنافسة تمهيداً لإلغائها.

من جهة ثانية، نعم ... جاءت حادةً ردود جعجع وجنبلاط والحريري على كلمة السيد حسن نصر الله في يوم الاحتفال بـ«الانتصار الإلهي»... لكن هل كان سيد المقاومة يتوقع منهم كلاماً مغايراً بعد كلمته التاريخية تلك؟

وهل تركت كلمته بما فيها من اتهامات لقوى «14 آذار» بالخيانة والتآمر والطعن بالظهر، ودعوات صريحة لإسقاط الحكومة، مجالاً لها بلزوم الصمت إلى ما شاء الله؟

أما السؤال الذي كم كنت أود ألا اضطر لطرحه فهو ... هل يظن «حزب الله» أنه بادعائه النقاء والمثالية ـ التي تكاد تلامس السذاجة ـ سيقنع باقي اللبنانيين بأنه ليس متورطاً بسياسة «فرق تسد» الطائفية التي يمارسها منذ فترة ضد خصومه؟

«الحزب» لم يبتكر هذه السياسة الخطرة، بل ورثها عن بعض حلفائه الإقليميين الذين نفذوها بلا هوادة طوال ثلاثة عقود بذريعة منع تقسيم لبنان إلى «دويلات طائفية». لكن أي عاقل يقدّر أن ثمة فارقاً ضخماً بين تشجيع التلاقي الوطني بين اللبنانيين وبين «تلغيم» وتفجير طوائفهم وأحزابهم ـ بما فيها الأحزاب العلمانية والمقاوِمة ـ ومؤسساتهم من داخلها. وهكذا، حبذا لو يدرك «حزب الله»، المسلح والجيد التمويل... والذي يشكل اليوم رافعة لقوى الأقلية في طوائفها، أنه يمارس دوراً لا يليق به ... ولن يساعد أبناء هذه الطوائف المستهدفة بالتلغيم والتفجير من الداخل على التعاطف معه إلى ما لا نهاية.

في الماضي كانت سياسة «تلغيم» الطوائف وشقها على بعضها ـ فعلياً أو تلويحاً أو ابتزازاً ـ سياسة رسمية لدمشق إبان هيمنتها على المسرح السياسي اللبناني. ونجحت هذه السياسة على امتداد ثلاثين سنة، فأسكتت من أسكتت، وهمّشت من همّشت، وأخرجت من اللعبة من أخرجت، وسجنت من سجنت، ولقي وجه ربه بفضلها من لقي. وها هي هذه السياسة تعود إلى لبنان، بعد جريمة 14 شباط/فبراير 2005 بحلة جديدة وبأيدي لاعب جديد.

مسيحياً، يستحيل تفسير تحالف «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» (العوني) إلا كاستراتيجية تهدف من وجهة نظر «الحزب» إلى غايتين: الأولى تأمين غطاء مسيحي له في وجه الأكثرية المؤيدة لـ«تيار المستقبل» داخل الطائفة السنيّة، والثانية ضمان استمرار الانقسام في الشارع المسيحي.

وسنياً، يرعى «الحزب» منذ فترة كل التحركات السنيّة ضد «تيار المستقبل» بالذات، سواء عبر الدورين النشطين للرئيس عمر كرامي والوزير السابق عبد الرحيم مراد، او المبادرات «الاختراقية» للرئيس سليم الحص ـ التي كان آخرها لقاء رؤساء الوزارات السابقين ـ، أو تشجيع الحضور العوني في صيدا للتلاقي مع قياداتها التقليدية المناوئة لآل الحريري.

ودرزياً، يدعم «الحزب» علناً بصورة غير مسبوقة في علاقات الطوائف اللبنانية إحداها بالأخرى، خطوة التنصيب غير القانوني لشيخ عقل برعاية الاقطاع العشائري، بينما كان مثقفو الدروز يدلون بأصواتهم لانتخاب مجلس مذهبي تتولى الهيئة الدينية فيه انتخاب شيخ العقل.

يبقى وضع «الحزب» في الساحة الشيعية. وهنا أحسب أن مهرجان «الانتصار الإلهي» وحده ما عاد كافياً لرسم معالم المرحلة المقبلة.

صحيح الصمود البطولي للمقاومين شكل انتصاراً معنوياً ضخماً برغم الخسائر البشرية والمادية والتنموية، وهو كفيل في ما لو أحسن «حزب الله» استثماره بشطب معظم السلبيات الناجمة عن هذه الخسائر. بيد أن التوجه الحالي لا يشير إلى أن «الحزب» بصدد بلورة مفاهيم عملية، مستقلة عن الضغوط الإقليمية والدولية، وتتجاوز المقاومة كعلة وجود وأسلوب حياة، لا سيما بعد سقوط شعار توازن «الردع».

ولا أعتقد أن المثقف ورجل الأعمال والحرفي الشيعي، الذي يعيش إما في بلد خدماتي وتعددي الطوائف كلبنان أو في مهاجر إفريقيا وأميركا، قادر على التعايش طويلاً مع «أحادية القرار»، ناهيك من «أحادية السلاح».

وبالتالي، قد يكون مناسباً لـ«حزب الله» أن يبادر هو إلى فتح حوار صريح وصادق ضمن الطائفة الشيعية أولاً، لمناقشة كل الأمور التي تشغلها. إذ لا مصلحة لـ«الحزب» في بناء الولاء له على الخوف من الشركاء في الطائفة والوطن... أو تخويفهم من الحجم الطائفي والقوة القتالية للطائفة ولذراعها المقاتل.

ومن ثم، فقط بعد إنجاز «الحزب» شيعياً ترسيخ «التعددية»، التي يعمل على زرعها في الطوائف الأخرى، سيتيسر له فتح قنوات الحوار الحقيقي معها بعيداً عن التلاعب بالمسميات الخادعة. وفي مقدمة هذه المسميات «حكومة الوحدة الوطنية».

فكل من يفقه شيئاً في السياسة يعرف أن الوحدة الوطنية بين أفرقاء الطيف السياسي في أي بلد في العالم لا تولد داخل الحكومات. ذلك أن الحكومات أو «المجالس الوزارية» أجهزة تنفيذية إجرائية مهمتها تنحصر بتنفيذ برامج القوى التي تتمتع ـ سواء كحزب واحد أو كائتلاف تحالفي ـ بأكثرية (مؤقتة) مطلقة داخل الهيئة التشريعية أو البرلمان.

الحكومات تنفذ فقط. بينما الحوار الوطني المؤسِّس لوحدة وطنية مكانه البرلمان، أو في حال اقتضت الضرورات، المؤتمرات التأسيسية أو الملتقيات الاستثنائية التي يتفق على عقدها بغرض الحوار.

وبالتالي، فتحويل الحكومة «حلبة ملاكمة» لقوى متناحرة، يخوّن بعضها الآخر كلّما عنّ له ذلك، يجعل من «الوحدة الوطنية» كلام حق يُقصد به باطل.

وهذا الباطل هو شلّ آلية الحكم ونسف كل مقومات الدولة ومؤسساتها والعودة إلى سياسة «فرق تسد»... التي أدت إلى ما يعانيه لبنان من تخبط وتكاذب واستقطاب.