زلزال فرنسي جديد: وفصل معاناة آخر

TT

ما إن ننتهي من قصة حتى تندلع قصة أخرى!، فقد فاجأتنا وسائل الإعلام الفرنسية من صحافة وتلفزيون مؤخراً، بالخبر التالي: أستاذ فلسفة في إحدى ثانويات مدينة «تولوز» الواقعة جنوب غرب فرنسا، تعرّض للتهديد بالقتل بعد نشره لمقالة هجومية ضد الإسلام في جريدة «الفيغارو» بتاريخ 19 سبتمبر (أيلول)، وكان ذلك في عزّ الأزمة التي أثارتها تصريحات البابا. ومعلوم أن هذا العدد صودر في تونس فوراً، بل وأحدث ضجة، وكذلك في مصر، ومنعت الجريدة من الدخول إلى هذين البلدين العربيين.

ما الذي يقوله الكاتب في هذه المقالة السوداء؟، إنه يكرر نفس الكليشيهات الموروثة عن العصور الوسطى ضد الإسلام، التي كان بابا روما قد حركها مؤخراً بشكل غير مباشر كما لو عن غير قصد.

فهذا الفيلسوف العتيد، يعتقد بوجود اختلاف راديكالي بين الإسلام من جهة، والمسيحية واليهودية من جهة أخرى. فالإسلام هو دين العنف والدم والإكراه والقسر، في حين أن المسيحية هي دين الرحمة والشفقة.. صحيح أنه يعترف بأن المسيحية، وبخاصة في مذهبها الكاثوليكي الذي يقف على رأسه بابا روما، ليست بريئة من العيوب والمَلامات، فتاريخها تتخلله صفحات سوداء، لكنها تابت عنها مؤخراً. نذكر من بينها محاكم التفتيش، وقتل الفلاسفة بتهمة الإلحاد والزندقة، كجيوردانو برينو وفانيني.. إلخ، لكن هناك فرقا أساسيا بين المسيحية والإسلام في رأيه هو: ان الإنجيل ليس كتاب عنف، في حين أن القرآن مليء بالعنف!. يضاف إلى ذلك، أن شخصية يسوع تبدو كالحمل الوديع، في حين أن شخصية «محمد» لا شفقة فيها ولا رحمة.

ثم يضيف المؤلف بعض العبارات المؤذية والمزعجة فعلاً في حق النبي والقرآن. وهنا يكرر، كما قلنا سابقاً، نفس مقولات القرون الوسطى المسيحية الأوروبية عن الإسلام والقرآن وشخص النبي عليه الصلاة والسلام.. وبالتالي، فلا يأتي بشيء جديد. ومن المدهش حقاً، أن يصدر هذا الكلام عن شخص يزعم بأنه فيلسوف!، فأولى صفحات الفلسفة هي الفِكر النقدي: أي نقد الأفكار الشائعة في المجتمع وأوساط العامة عن موضوع معين أياً يكن. فمن الواضح أن الصورة السائدة عن الإسلام ونبيّه في أوروبا منذ العصور الوسطى، هي سلبية جداً، فلماذا يأخذها على عاتقه ويكررها بشكل ببغاوي حرفي؟، وهل يليق ذلك بالفيلسوف أم برجل الشارع؟!.

أرجو ألاّ يفهمَنَّ القارئ من هذا الكلام أني أؤيد الأصوليين الذين هددوه بالقتل واضطروه إلى مغادرة منزله مع زوجته وأولاده، فما إلى هذا قصدت.. ومعلوم أنه اختفى الآن عن الأنظار وأصبح تحت حراسة بوليسية مشددة في مكان مجهول، ولم يعد يعطي دروسه كالمعتاد لطلابه.. وهذه أبشع طريقة «للدفاع» عن الإسلام ورسالته وقيمه، ونحن ندينها ونستنكرها كلياً، فلو أن الإسلام كان سيزول أو سيتأثر بهذه الحملات الهجومية عليه، أو لو كانت الشتائم ستنال منه، لكان قد انتهى منذ القرون الوسطى!، فالمؤلفات التي كتبت ضده والإشاعات التي حِيكت حوله، تبلغ الأطنان كماً ويندى لها الجبين خجلاً. ومع ذلك، فإن الإسلام ظلّ مستمراً، بل وتوسع وترسخ أكثر فأكثر.. وهذا يعني أنه يحمل قِيماً معينة، قِيماً كونية تحميه وتشدّ من أزره، ولا تحميه إطلاقاً تهديدات الأصوليين المتشددين لأعدائه. على العكس، انها تصيبه ببالغ الضرر وتشكل أكبر خطر عليه وعلى حقيقته المتعالية ورسالته السمحة.

كان يكفي أن يقول أحدهم لهذا الفيلسوف العتيد ما يلي: هل قرأت كتاب المستشرق موريس لومبار عن «الإسلام إبان عظمته الأولى»؟، وهو فرنسي مثلك وعالم مختص بالدراسات العربية والإسلامية، كما أن الكتاب منشور تحت إشراف أكبر مؤرخ فرنسي في العصور الحديثة: فيرنان بروديل. فهو يطرح هذا السؤال البسيط في الصفحة التاسعة من كتابه: كيف يمكن أن نفسر سرّ تلك السهولة أو السرعة التي حصلت فيها الفتوح الإسلامية وعلى يد عدد صغير جداً من الفاتحين؟، وجوابه هو أن ذلك يعود إلى عدة عوامل لا عامل واحد. أولها: هو أن سكان سوريا وفلسطين ومصر ووادي الرافدين، كانوا متذمّرين جداً من بيزنطة وفارس بسبب قمعهما الديني والمادي لهم. ينبغي العِلم بأن معظم شعوب المناطق الثلاث الأولى، كانوا مسيحيين مثل بيزنطة، لكنهم كانوا ينتمون إلى المذهب النسطوري القائل بطبيعة واحدة للمسيح. هذا في حين أن بيزنطة كانت تريد أن تفرض عليهم بالقوة المذهب الآرثوذكسي القائل بطبيعتين: لاهوتية وناسوتية. ومعلوم أن الخلاف المذهبي داخل الدين الواحد، يكون أحياناً أخطر من الخلاف بين دينين مختلفين، وهذا الأمر ينطبق على الإسلام أيضاً في بعض الأحيان والظروف (انظر المشاكل بين السنّة والشيعة).. ولهذا السبب، فإن سكان هذه البلاد المسيحيين استقبلوا العرب المسلمين كمحرِّرين لا كفزعة، على عكس ما يُقال ويُشاع في أوروبا منذ القرون الوسطى. نقول ذلك وبخاصة أن بعضهم كانوا عرباً أو من قبائل عربية.

وثانيهما بحسب أقوال موريس لومبار، هو أن رسالة القرآن والإسلام كانت تحتوي على قِيم المساواة والديمقراطية والعدالة والإنسانية الكوسموبوليتية، أي الكونية. ولهذا السبب، لقيت صدى واسعاً في أوساط السكان المقموعين والميّالين بالتالي إلى الانتفاضة الاجتماعية والدينية على الإمبراطورية البيزنطية أولاً، فالفارسية ثانياً، وهذا ما سهّل الفتح العربي الإسلامي ومهّد له الطريق. ولهذا السبب، استطاع العرب المسلمون المنطلقون من الجزيرة العربية، أن يكتسحوا في ظرف سنوات معدودات، مناطق شاسعة واسعة لم يكن أحد يتوقعها أو يحلم بها، مجرّد حلم، وهذه الظاهرة لا تزال تُدهش المؤرخين الكبار حتى الآن.

ويعترف موريس لومبار بأنه لم يحصل أي اضطهاد ديني لمسيحيّي هذه المناطق من قِبل المسلمين، في تلك الفترة الأولية على الأقل، ولم يحصل أي إجبار لأي شخص على اعتناق الإسلام بالإكراه والقسر. فقط حصل فرض لضريبة معينة: هي الجزية، وهذا الشيء إذا كان مفهوماً في ظل تلك الفترة لم يعد مقبولاً في ظل العصور الحديثة بالطبع، ولم يعد قائماً أصلاً.

هناك عامل ثالث لا أعرف لماذا أهمله موريس لومبار، ألا وهو: أن المسلمين الأوائل كانوا مفعمين حماسة للرسالة القرآنية والدين الجديد، وهذه الحماسة المنقطعة النظير، ساهمت بدون شك في انتشار الإسلام بدون قسر أو إكراه، بل وربما كانت السبب الأول والأساسي.

بالطبع لا يمكن إهمال العوامل المادية، ولسنا بحاجة لأن نكون ماركسيين من أجل إعطائها أهميتها أو التفكير فيها، فمن الواضح أن الهلال الخصيب (أي وادي الرافدين، سوريا الكبرى، مصر)، كانت مليئة بالخيرات والبساتين والخضرة والحدائق الغناء، لذلك فإنها كانت جذابة بالنسبة لموجات الفاتحين القادمين من الصحراء في معظمهم: أي بالنسبة للعرب البدو.

هل يكفي هذا الكلام الصادر عن شخص غير عربي وغير مسلم لدحض تلك المقولة الخاطئة التي تقول بأن الإسلام دين عنف لم ينتشر إلاّ بحد السيف؟، وهل يمكن لعقيدة كبرى تشمل أكثر من مليار شخص، أي خُمس المعمورة، أن تنتشر وتستمر على مدار القرون إذا كانت خالية من بذور العقلانية والقيم المثالية العليا؟!، أُضيف إلى ذلك قائلاً: بأن سبب الخطأ أو سوء التفاهم الذي وقع فيه البابا، وهذا الفيلسوف روبير رديكير، ومعظم الغربيين، هو أنهم يخلطون بين الإسلام في عصره الذهبي وما آلت إليه أحوال العالم الإسلامي بعد الدخول في عصر الانحطاط، وبالتالي فهم يسقطون الصورة الثانية على الأولى ويستنتجون بأن الإسلام دين عنف، وتعصب، وإكراه، وقسر.. إلخ، والأخطر من ذلك، هو أنهم يستنتجون بأنه في أصله وجوهره لا يمكن أن يتصالح مع قِيم عصر التنوير التي تصالحت معها المسيحية بعد جُهد جهيد وعِراك طويل.

ونحن نقول العكس: الإسلام شجّع على الفلسفة والعلم في عصوره الأولى، وهو قادر على أن يتصالح معهما من جديد بشرط أن ينخرط العالم العربي والإسلامي كله في أكبر عملية مراجعة نقدية وإصلاح داخلي لتراثه المتراكم، وبالتالي فإسلام التنوير والعقلانية آتٍ لا ريب فيه..