إرهابيون حتى إشعار آخر

TT

شعر بعض المسلمين بالانتشاء، لأن مديرة «دار الأوبرا الألمانية»، ألغت عروض عمل مسرحي أوبرالي لموزارت قد يثير حساسيات دينية. وقيل صراحة إن ثمة تهديدات أمنية في ما لو قدم العمل. إجراء في الظاهر، قد يبدو للبعض وكأنه ثأر ضمني لإسلام جريح في قلب أوروبا، لكن الحقيقة ان هذا العمل يتعرض للمسيحية والبوذية وغيرها، لكن الخوف كما يقول المسؤولون الألمان هو من المسلمين فقط، الذين يظهرون اليوم، وكأنهم وحدهم من يضيقون بالحريات، ويسلطون السيوف على رقاب الفنانين، حتى بات سكان العالم يتساءلون عن إمكانية التعايش معهم. يحدث هذا في ما تنشر دراسة تؤكد أن ربع الدانماركيين أصبحوا اليوم اكثر سلبية حيال الإسلام بعد أزمة الرسوم الكاريكاتورية وما تلاها من عواصف وشحنات رعدية مزلزلة. وغضب المسلمين على استفزازات، بعضها يستحق الرد عليه، وبعضها الآخر هو أقل من أن يثار حوله غبار، وبشكل دوري ومستمر بدا من حواضر النشرات الإخبارية طوال العام الحالي. وهو ما يؤشر إلى تنامي الإحساس بالعداء، وارتفاع نسبة التحسس من الآخر. مشاعر كان لا بد أن تتعاظم على وقع شلالات الدماء الهادرة من أفغانستان مروراً بالعراق وفلسطين وصولاً إلى لبنان.

ان تحول ملكة بريطانيا قاعة من قصر ويندزور إلى مسجد، ليقيم فيه العاملون المسلمون في بلاطها صلواتهم، هو من باب المسايرة التي لا تقدم كثيراً ولا تؤخر، في عمق العلاقات التي تزداد توتراً بين المسلمين والغرب. وإن كان المسلمون مسؤولين عن جزء ليس بيسير من التشنجات التي باتت تحكم صلة عالمين، لا يستطيع أحدهما الاستغناء عن الآخر، ولا يكف عن تجريحه حد النزف، فإن الغرب الاستعماري أعاد هجومه على المنطقة العربية قبل أن تلتئم جروح الجولة الأولى، وهذا تبدو نتائجه من الآن مرعبة.

تعليق أو إلغاء عروض العمل الأوبرالي «أيدومينيو» في ألمانيا، استدعى الدعوة إلى مؤتمر جمع المسلمين، لإقناعهم بضرورة الانخراط في مواطنية ألمانية حقة تحفظ حقوقهم وواجباتهم، لكن هذا الكلام على أحقيته وبداهته، يصبح مفعوله مشابها لافتتاح قاعة للصلاة في قصر ويندزور، إذا ما بقيت المشاعر ملتهبة والحروب في المنطقة العربية مشتعلة، والقلوب محتقنة وجعاً والماَ.

تحاول كل دولة اوروبية على حدة، أن تفعل ما بوسعها لتهدئة خواطر مسلميها وإقامة جدران عازلة إجرائية وقانونية، تقيها شر المزيد من صنف هؤلاء المهاجرين الذين يأتونها محملين بتراث من التشنجات المتجددة بين عالمين، الهوة بينهما آخذة في الاتساع والتجذر. وتكاد كل سفارة غربية على أرضنا تتحول إلى مصفاة بثقوب متناهية الصغر، تغربل بها المصطفين على أبوابها، كي تقلص عدد الشاردين من أوطانهم إلى درجة الصفر. لكن البؤس يتزايد، والموت يتعاظم، والهاربون من جحيم الحروب والفقر يتنامون كالأشجار البرية، ويطلعون من تحت كل ارض اجتمعت لها اسباب الحياة.

عشرات الكتب الجديدة الصادرة في اميركا هذه الأيام، تتحدث عن الجيل الجديد من الإرهابيين، المولع بالكومبيوتر والخليوي، ويعرف كيف يقتحم أسرار التكنولوجيا الحديثة، وضليع بالعلوم، وبمقدوره ان يحدث اضراراً كبيرة بمجهودات صغيرة، إضافة على انه جيل يعرف الأميركيين جيداً، مما يسهل مهمته في مهاجمتهم. وربما ان الأميركيين محقون تماماً، فها هو أحد مسؤولي القاعدة، طالب أخيرا، علماء المسلمين بجهاد من نوع جديد، عبر استخدام الأسلحة الجرثومية. وهي دعوة تؤكد مخاوف الكتاب الأميركيين ولا تنفيها. فالمعرفة لم تعد حكرا على أحد، واستمرار الحرب العسكرية بوجوهها المختلفة التي تستنسخ منذ أكثر من قرن في المنطقة العربية، تجاوزت داحس والغبراء بسنوات ضوئية، ودخل على الخط كل المتكسبين والمنتفعين وحتى الحمقى والفضوليين. ووصل الحال أن باتت المطارات الغربية كي تتقي شرنا، مشغولة بتفحص أصابع أحمر الشفاه، وزجاجات العطر والشامبو وحليب الأطفال، ونعال الأحذية، وتحرم الأولاد حتى من مسدساتهم البلاستيكية وألعابهم الصغيرة، التي ترمى أمام أعينهم في سلة المهملات باسم الأمن والإرهاب. أمور لو رويت لنا من عشرين سنة لظنناها هزلاً محضاً، وها هي تتحول إلى حقائق واقعة يعيشها ملايين المسافرين حول العالم. ويبقى المجرم الذي تبحث عنه كل الأجهزة الأمنية المدججة بالمعلومات والمعدات السوبر تكنولوجية، شخص هلامي، يتسرب من بين الأصابع، ويزداد تعنتاً وقوة وقدرة على التحايل على الحواجز، كما تقول التقارير الأخيرة عن الإرهاب.

كل هذا وما تزال الحرب على الإرهاب تسير بخطى واثقة، ووفق الخطة الفاشلة الأولى التي انطلقت بعد 11 سبتمبر، حتى ولو تزايدت الهجمات على الجنود الأميركيين في العراق، ووصلت إلى معدل هجمة كل ربع ساعة، وصار مستوى الخطر الذي يحدق بالجندي البريطاني في أفغانستان يفوق أضعاف المرات ما هو عليه في العراق.

لا احد يريد ان يتزحزح عن خططه وتعنته، وإدارة بوش لا تريد ان تعترف بأي خطأ فظيع ارتكبته، ولو تحولت الكرة الأرضية الى كتلة نار ورماد. والعرب بعد سنوات الكفاح العقيم، والانهيارات الداخلية المتلاحقة، هم اعجز ما يكونون عن التفكير بمخارج ناضجة من مآزق متشابكة ومعقدة، تحشرهم كل يوم أكثر في زاوية الاتهام بالتخلف والإجرام والعدوانية. وجل ما يستطيعه اهل يعرب هذه الأيام، ان يثوروا على خطبة هنا، ويهددوا بتفجير صالة هناك، او إهدار دم كاتب في مكان آخر، والثورة على أصغر بلد على الخريطة لو نشر رسوماً لا تعجبهم.

أيدور الجميع في حلقة مفرغة لا مخرج منها، وهل بمقدور الضعيف أن يكسر هذا الجحيم المتعاظم، الذي يهدد بإحراق الناس أجمعين.