الخطاب السعودي الجديد: الرهان على القادم من الأيام

TT

عند تحليل العقلية السياسية السعودية، لا سيما في السنوات الأخيرة، تلمس أن خطابها بات منتمياً إلى فضاء الشفافية والمكاشفة، وما لبثت أن كرّست هذا التوجه في تعاملها المحلي، وهو الذي تعرّض لمتغيرات لم يتوفر لها من الإرهاصات ما يجعل أي شخص بإمكانه التنبؤ بها.

على أن القرار السياسي وطبيعته، يحاول قدر الإمكان الحرص على استقرار وثبات المجتمع (نسبياً)، مستنداً إلى نظرة براجماتية تفرز الممكن والمعقول (أليس السياسة هي فن الممكن)، وبالتالي التفاعل ضمن المعطيات الراهنة، لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، يتمثل في الكيفية التي يمكن أن يتحقق فيها ذلك (الاستقرار النسبي)، والآلية المتخذة للوصول إلى تلك الغاية أو الاقتراب منها على أقل تقدير!.

المفهوم العقلاني يرى أن السلطة السياسية هي الأداة في اتخاذ القرارات المؤثرة التي تُعد من ضرورات الدولة والمجتمع، ومتى ما كانت السلطة ناقدة لذاتها، متفاعلة مع ما حولها من تحولات وهي على دراية بالمخاطر والمحاذير، فإن ثمّة صورة شمولية تلوح في الأفق تحمل في طياتها معادلة التوازن (رغبة المواطن ومصلحة الدولة)، إذن (نقد الذات) و(التفاعل مع لغة العصر)، مفهومان جديدان اخترقا نسيج الخطاب السعودي الجديد، وبالتالي أفرزا مفاهيم المكاشفة والشفافية والحوار وقبول التعدد والاختلاف والرأي الآخر. هذا النهج الخطابي كسر تقليدية الصورة النمطية الشائعة عن الخطاب السعودي، والسياسي منه تحديداً، ومَن تابع ردود الفعل السياسية إزاء أحداث المنطقة، يلمس معنى ما ذكرناه.

ومَن يتأمل خطابات وكلمات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، يلمس فيها تشريحاً ذاتياً لمختلف القضايا المطروحة على المستويين المحلي والدولي، وتنطوي على سِمات تلك الصورة الجديدة المتشكلة لخطاب بات لافتاً ومثيراً للجدل، لا سيما ونحن نتحدث عن خطاب فائت ظلّ محكوماً عليه بالجاهزية والقصور وتغليب العاطفة على العقل. إن الملك عبد الله بهذا التأسيس الخطابي، يرنو إلى تحقيق المعادلة الآنفة الذكر، وكأنه يقول إنه علينا الاستفادة من التراكمات المجتمعية، وتوفير القنوات المناسبة لترسيخ الوحدة الوطنية، والاعتزاز بقدرات أبناء الوطن ومكتسباتهم، والبدء بمراجعة الأوراق ووضع الخطط (الجادة) لمعرفة الخلل قبل معالجته.

ولذا، فإن (نقد الذات وكشف الأوراق والمصارحة وكشف الأخطاء)، علانية، هو ـ في تقديري ـ نقلة نوعية في منهجية الخطاب السعودي ـ الذي ما زال في خطواته الأولى ـ نحو ترسيخ خطاب مؤسسي ذي أرضية صلبة، ولعلها الآن مرحلة مخاض لا تلبث أن تتحدد الملامح وتتشكل، فالخطاب الجديد له شكل ومحتوى متحرر من الخطاب التقليدي (الفائت)، وإن خرج الأخير الجديد من رحم القديم، إلاّ أن ثمّة قواسم مشتركة بينهما، لا سيما في ما يتعلق بالثوابت، لكن هذا لا يعني أن تكون الرؤى متماهية بين الخطابين، فالراهن هشّم نمطية القديم، وجدّد روحه وآليته.

على أن تحليلاً كهذا، لا ريب في أنه ينزع إلى دائرة منطق الأمور، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالشأن المحلي وأحداثه أو إفرازات المسرح الدولي وآثاره، محاولاً التحليل بحياد من دون الارتهان لقاعدتي (إما، أو) و(مع أو ضد)، مع الانسلاخ من كل القيود التي تكرس مفاهيم المطلق والتابو والتبرير، فالتحليل هنا ينزع إلى الموضوعية والقراءة المحايدة وتقويم لما يجري في السعودية من تفاعلات وتحركات، جديرة بطرحها في احتفال السعوديين بيومهم الوطني.

فالقصد هنا لا يعني التقليل من الخطاب الفائت الذي عُرف عنه الهدوء والابتعاد عن الإثارة وسياسة (النفَس الطويل) في معالجة القضايا، فضلاً عن التأني في اتخاذ رد فعل إزاء أية قضية معقدة أو غير واضحة الملامح، بقدر ما يعني أنه لم يعد منتجاً في الوقت الراهن، بعدما كان ناجحاً في زمانه آنذاك، لأن لغة العصر قد تغيّرت، ومفاهيم العلاقات الدولية أخذت منحى مختلفاً من حيث التوازنات والعلاقات وحتى من حيث اللغة ذاتها.

لذا، كان من الطبيعي أن ينبثق خطاب متوائم ومواكب للمفهوم العولمي الجديد، والفطِن مَن يبادر إلى ذلك قبل أن يُفرض عليه، وها هي السعودية ممثلة في ولي أمرها، تؤسس خطاباً لافتاً بعيداً كل البُعد عن الانفعال اللحظي أو البريق الإعلامي أو حتى كسب المواقف التي ما زالت تجيدها بعض الحكومات العربية لدرجة الاشمئزاز!.

* كاتب سعودي

www: zuhair-alharthi.8m.com