حكمة التجاوز

TT

بعيد الحرب الأخيرة على لبنان وتدمير جنوب بيروت وجنوب البلاد، ارسل عدد من الدول مساعدات مختلفة الى الحكومة اللبنانية، اولاً لأن لبنان لا يزال، حتى اللحظة، دولة مستقلة، ولو من حيث الشكل. وثانياً لأن تجاوز الحكومة على ارضها يعني سحب الاعتراف بها، والوقت غير مناسب لمثل هذه الخطوة اللذيذة. غير ان صحيفة «الاخبار» الحديثة الصدور، ظهرت على مدى يومين، وربما ثلاثة، وعنوانها في صدر الاولى يقول: قطر تتجاوز الحكومة وتنقل المساعدات الى الجنوب. والتجاوز هنا، كما هو واضح، سببه اللهفة على ضحايا العدوان الاسرائيلي. واذا كانت الحكومة اللبنانية تطيق مشهد العذاب، فإن حكومة قطر لا تطيق. اعجبني استخدام فعل «التجاوز» لما فيه من بلاغة او دقة تصف مبادرات الدبلوماسية القطرية الجديدة. فقد تجاوزت الدوحة الاجماع العربي وذهبت الى ايران. ثم تجاوزت الاجماع العربي ومجلس التعاون الخليجي وارسلت جنرالاً قطرياً يصطاد في الزبير ويحول على بغداد للقاء السيد الرئيس. وتجاوزت العرب عندما عقدت اللقاء الاقتصادي الشهير بين ظهرانيها.

لا بدَّ ان لهذا المنحى التجاوزي فلسفة قومية لا يدركها أحد. وقد تجاوزت قطر جميع اصدقائها وحلفائها وخصومها الآن، ورفضت ان تؤيد المرشح الاردني للأمانة العامة للامم المتحدة مفضلة عليه، ايضاً لأسباب لا تدرك، المرشح الكوري الجنوبي.

ربما لأسباب علمية مجردة. او لأن لا أمل للمرشح الاردني في اي حال، ما دامت الامانة العامة قراراً اميركياً اولاً واخيراً وما بينهما. فلماذا يتكبد الرجل عناء المعارك. ولكن لمرة حدث اجماع عربي حول رجل او مسألة او موضوع، فلماذا الاستعلاء على هذا الاجماع ولو كان خاسراً؟ ولماذا تجاوز العرب الى كوريا الجنوبية في قضية جوهرية عندهم ومنصب يتعاطى في صلب قضاياهم، فمن يتجاوز الحكومة اللبنانية الى ضحايا العدوان لا يمكن ان يتجاوز الاجماع العربي الى كوريا الجنوبية، وهي دولة معلنة السياسات، وتتمتع دون غيرها، بأكبر القواعد الاميركية واكبر عدد من الجنود الاميركيين، منذ الحرب الكورية.

قبل سنوات كثيرة مررت في الدوحة. وتفضل مندوب قطر السابق ووزير اعلامها لاحقاً الدكتور عبد الله الكواري واقام غداء حضره صحافيو البلد. وخلال الغداء تحدث الدكتور، بإعجاب، عن نموذجين: اليمن، والأردن. ولست اذكر تماماً مواطن الاعجاب بالتجربة اليمنية لأنها لا بد كثيرة، اما الاردن فقد كان محط تقدير شديد. وقد افاض في الحديث عن الملك حسين. وعن تجربة الحكم. وعن العمل المؤسساتي. ثم اقترح عليَّ الدكتور الكواري ان اقوم بنفسي بزيارة الى عمان وصنعاء. واوحى اليَّ بأن الدولة في قطر تريد ان تحذو حذو الاردن. وتحدث عن تبادل الزيارات بين الفريقين. وقد تذكرت كل ذلك امس وقطر تقترع وحيدة ضد مرشح الاردن. حكمة التجاوز.