الفتنة الطائفية في العراق.. بين الوهم والحقيقة!

TT

ثمة بون شاسع بين الفتنة الطائفية الاجتماعية والفتنة الطائفية السياسية، ورغم كثرة اللغط واللغو والتحليل والجدال، التي تدور عن مظاهر الفتنة الطائفية في العراق، الا ان فرزا موضوعيا وتشخيصا علميا لهذه الفتنة، لم نلمسه، بل على العكس، نجد هناك الكثير من التشويش والضبابية بقصد إرباك الصورة، وإحداث عملية تمازج وتداخل بين الفتنة الطائفية الاجتماعية والفتنة السياسية، ليحقق المشروع الفتنوي القائم في العراق حاليا اهدافه الآنية والمستقبلية.

لا شك في ان عدم وضوح الصورة لما يجري في العراق، وهذا الحجم من الضبابية، يجعلان المتلقي العراقي وسواه، يقع تحت سطوة المصطلح العام للفتنة الطائفية، وسرعان ما تبرز عند الكثيرين، احتمالية اشتعال حرب بين العراقيين، ما يثير المخاوف التي قد تصل الى حد الهلع، ما يؤسس لزعزعة الثقة بالاخر، على طريق احداث الشرخ المطلوب في التأهيل الجمعي لتقبل الوساوس الظنونية، وبما يعبد البيئة الاجتماعية لما تبغي الوصول اليه الاطراف والجهات العاملة في بواطن وزوايا مصانع اشعال الفتنة السياسية، وقبل الحديث عن هذين النوعين من الفتنة الطائفية (الاجتماعية والسياسية)، لا بد من القول ان حصول اي توغل من قنوات الفتنة السياسية داخل البنية الاجتماعية، سيكون بداية الخطر الحقيقي، الذي يهدد باشتعال الحرب بين العراقيين.

الطائفية الاجتماعية:

ان انبثاق فتنة طائفية اجتماعية في اي مجتمع، يعني الانجرار الى حرب لا يستطيع احد التكهن بنتائجها، وما ستؤول اليه، والسقف الزمني الذي ستغوص في أوحاله، الا ان حصول مثل هكذا حرب في المجتمعات المتماسكة ليس بالامر الهين، وفي ما يتعلق بالتجربة العراقية، فان ثمة عوامل عديدة تقف بالضد من نشوب مثل هكذا فتنة، وفي مقدمة ذلك العاملان الاجتماعي والجغرافي، بما يشكلانه من قوة يتميز بها المجتمع العراقي في تركيبته العفوية التي جبل عليها، والتي لم تحصل نتيجة لتخطيط مسبق يرتبط بنوايا ومصالح لهذه الطائفة او تلك، وهذا العرق وتلك الديانة.

فاذا بدأنا بالجانب الجغرافي، سنجد بكل سهولة ان التوزع الطائفي في العراق (سنة وشيعة)، يشمل جميع انحاء العراق، من اقصى شماله مثل تلعفر، الى اقصى الجنوب في البصرة، مرورا بجميع المدن والقرى والمحافظات، مثل العمارة والكوت وديالى وصلاح الدين والرمادي والموصل وكركوك، اما بغداد العاصمة فانها الانموذج المتفرد لتعايش جميع الاطياف والاعراق والاديان فيه (بما في ذلك وجود اليهود العراقيين في بغداد، وكان عددهم قبل الاحتلال الاميركي 38 يهوديا عراقيا عاشوا بأمن وسلام). وهذه الصورة مخالفة لتلك التي يتخيلها الكثيرون، الذين يعتقدون ان العراق مقسم الى ثلاث رقع جغرافية، (للسنة والشيعة والاكراد)، وهذا ما حاولت ترسيخه وسائل الاعلام الاميركية والغربية. في حين تشهد الخريطة الجغرافية العراقية انتشارا للطوائف والأعراق في جميع المدن العراقية، وهذا امر معروف لجميع العراقيين، ولا يختلف بهذا الخصوص اثنان. هذا التداخل في المكمن الحياتي العراقي، عنصر قوة واضح وجلي في الوقوف بوجه محاولات من يبغي اثارة الفتنة الطائفية في العراق، لانه لا توجد الحدود الجغرافية، التي تفصل بين طائفة واخرى، كما يتصورها الكثيرون.

اما اذا ناقشنا العامل الاجتماعي فنجد انه ينقسم الى جانبين، يشكلان بمجموعيهما عنصر قوة فريدا ومتميزا في التصدي لمحاولات اثارة الفتنة الطائفية، فهناك القبائل والعشائر العراقية، التي يتوزع افرادها على الطائفتين، وليست هناك احصائيات او مصادر في العراق تشير الى الانتماء الطائفي، بين قبائل وعشائر العراق، ومن اهم الدراسات الموثقة عن عشائر العراق، ما كتبه المؤرخ العراقي الشهير المحامي عباس العزاوي في كتابه (العشائر العراقية)، الذي صدر بعدة طبعات في اربعة اجزاء ضخمة، ولم يتطرق في تلك الدراسات الواسعة والشاملة الى الانتماء الطائفي، مثله مثل الكثير من الدارسين والباحثين الموضوعيين من بعده. ولكن يعرف العراقيون الانتماء الطائفي لمجاميع او عشائر وافخاذ من هذه العشيرة او تلك، وعشائر العراق جميعها يتوزع ابناؤها على الطائفتين، مثل (عشيرة شمر والدليم والجبور والعزة وبني زيد والسعدون وزبيد والجنابيين وسواهم)، وهذا التوزع العشائري والتداخل، يعني بكل بساطة، ومن منظور اجتماعي، ان العراقيين وعبر تاريخهم الطويل غير معنيين بالجانب الطائفي.

وهنا لا بد من الاشارة، الى ان الغالبية العظمى من هذه القبائل تعود الى امارة واحدة، مع الولاء لها والعودة الى زعامتها في كثير من الامور العشائرية والشخصية، رغم اختلاف انتمائها المذهبي، من دون ان يؤثر ذلك على بنيتها والتزام رجالها بمبادئ وتقاليد القبيلة او العشيرة.

وخلاصة القول، بهذا الشأن، إن الانتماء الى طائفة معينة، لم يقف عائقا امام الانتماء القبلي والعشائري، ولم يؤثر على هذا الارتباط، وهذه سمة معروفة وواضحة من سمات تشكيل وتركيب المجتمع العراقي.

اما الوجه الاجتماعي المهم الاخر في العراق، فهو مسألة التزاوج بين ابناء الطائفتين، وهذا امر بارز وواسع الانتشار في العراق، ومع ان احصاءات رسمية لا توجد بهذا الخصوص، الا ان المسح الاجتماعي المتعارف عليه في اوساط العراقيين، يؤكد ان التزاوج بين الرجال والنساء من الطائفتين، يشكل ظاهرة كبيرة، وكما هو التداخل والتوزع في العشائر والقبائل، فهو كذلك بين العوائل وعلى نطاق واسع. وهذا التمازج يحمل الكثير من عناصر القوة، التي تقف بوجه محاولات اثارة الفتنة الطائفية الاجتماعية في العراق.

الطائفية السياسية:

ارتبط هذا النوع بقوة السلطة، وبدأت اولى ملامحه من قبل قوى خارجية، حاولت توظيف الجانب الطائفي لخدمة مصالحها في العراق، خاصة ابان الصراع العثماني ـ الايراني والغزوات والتناحرات بينهما التي دارت على ارض الرافدين. وتقول الروايات التاريخية ان الاتراك ارادوا اثارة الفتنة الطائفية، من خلال استهداف رموز الشيعة في العراق، وتناغم الفعل الايراني مع ذلك، في تصفية رموز السنة، ليكون الاصطفاف على اساس طائفي، لتحصل الفرقة، ما يسهل السيطرة على القوة الثقافية والحضارية والاجتماعية، التي يتميز بها العراقيون، ورغم اختلاف الوجوه واللغات والعناوين، الا ان العصا بقيت واحدة ومتشابهة في جميع العقود والقرون والحقب.

اما مظاهر الطائفية السياسية في العراق فقد بدأت تأخذ طريقها بقوة وعلى نطاق واسع، وبصورة جلية بعد احتلال العراق من قبل القوات الاميركية في التاسع من ابريل 2003، فكان اول شاهد بارز ودليل قاطع على وحدة المجتمع العراقي، هو عدم حصول أية حوادث ذات طابع طائفي، بعد احتلال بغداد، رغم الانعدام التام لوجود قوات الامن، وعندما جرت اول زيارة الى النجف لمناسبة اربعينية استشهاد الامام الحسين، بعد اسبوعين من الاحتلال، لم يسجل أي حادث عنف او اعتداء على زوار العتبات المقدسة، وقبل ذلك بادر عدد كبير من رجال الدين لتأدية صلاة مشتركة في مدينتي الكاظمية والاعظمية.

ان عدم حصول اي مظهر من مظاهر العنف في تلك المرحلة، التي شهدت فراغا أمنيا تاما، يؤكد بالدليل القاطع عدم وجود احتقان طائفي، علما بأن الاسلحة كانت متناثرة في الشوارع وتغص بها البيوت والاسواق، بعد ان تعمدت القوات الاميركية ترك المستودعات الضخمة للجيش العراقي مشرعة امام العراقيين، ونقل احد كبار المعلقين الاميركيين، عن وزير الدفاع رامسفيلد، انهم اي القوات الاميركية، قد تعمدوا فتح المخازن امام العراقيين، ولم تحصل اية اعتداءات او مشاجرات بين العراقيين، هذا يعني الا وجود للطائفية الاجتماعية في العراق ، لان اي نوع من الاحقاد الدفينة، سرعان ما تستغل الانفلات والفوضى الامنيين، لتخرج الى الميدان، ولو كان هناك اي شكل من اشكال الطائفة الاجتماعية، لظهر في ذلك الجو المناسب.

الا ان مظاهر الاحتقان والعنف الطائفي، اخذت بالتصاعد مع المراحل التي مرت بها العملية السياسية، بعد ان تم تشكيل مجلس الحكم (منتصف يوليو 2003) على اساس عرقي وطائفي، ليؤسس لاولى لبنات الطائفية السياسية في العراق، وجاءت الانتخابات الاولى التي جرت في 30/1/2005 والانتخابات الثانية، التي جرت في 15/12/2005، لتثبت مرتكزات الطائفية السياسية في العراق، من خلال اعتماد القوائم الانتخابية، التي تمثل الطوائف والاعراق في العراق، وحصلت عملية تثقيف طائفي من قبل الطرفين، (الاحزاب السنية والاحزاب الشيعية)، كما لم يشهده العراق من قبل، وجاءت نتائج الانتخابات على تلك الاسس، التي اعتمدت الولاء قبل الكفاءة والانتماء للطائفة قبل التفكير بمصلحة البلد العليا ومستقبل الاجيال، وانعكس ذلك على تشكيلة الحكومة، الامر الذي جعل من الطائفية السياسية العنوان اليومي في حياة العراقيين.

من هذه المقاربة، يمكن النظر الى الظاهرة الطائفية في العراق، التي تتقدمها الطروحات والافكار والجدل السياسي، ومع هذا التناحر والاختلاف والبحث عن مناصب ومغانم في السلطة باسم هذه الطائفة او تلك، فاننا لم نجد صوتا اجتماعيا واحدا من وجهاء المجتمع يدق طبول الحرب الطائفية، ولم يصدر من عشيرة او قبيلة او مدينة من هذه الطائفة او تلك، ما يشير الى انها تريد شن هجوم او حرب على طائفة اخرى، ولهذا فان الذي يدقق بامعان في ما يجري من عمليات قتل على الهوية، يجد ببساطة ان العمق الاجتماعي يرفض ذلك ويستهجنه ويستنكره، وان الذين يقومون بعمليات القتل على الهوية، هم اما من العصابات المدربة، التي صنعتها القوات الاميركية، وهذا امر غير خاف على العراقيين، او من بعض الجماعات والاحزاب السياسية، التي تدرك تماما الا مستقبل لها في العراق، اذا بقي هذا البلد موحدا ومتماسكا، لا خلاف بين طوائفه واعراقه واديانه، وما يمكن قوله، ان ما يحصل في العراق، هو محاولة للتأسيس لطائفية سياسية، واذا ما نجح هذا التأسيس، فان اخطاره مستقبلا قد تتفاقم، لانها قد تخترق اسوار المجتمع العراقي الرصينة والمتماسكة، التي تحدثنا عنها، والتي تقف بقوة بوجه الذين يريدون خلق طائفية اجتماعية في المجتمع العراقي، وليس بإمكان احد ان يكون واعظا مقبولا من جميع العراقيين، بعد ان اوغل التشويش اليومي وازدادت الضبابية، الا ان تلمس الاخطار، والتثبت من جديتها لم يعد امرا صعبا، فالقتل على الهوية يطال الجميع، وبطريقة ممنهجة ومبرمجة، لا تقدر على تنظيم مراحلها وتنفيذها الا الدول او عصابات الاجرام، من تلك التي تتقاضى اجرا هائلا مقابل قتل اعداد من هذه الطائفة، ومثل ذلك من الطائفة الاخرى، ومن يدرك ذلك عليه ان يمسك صدغيه ويدعكهما بقوة ويثق بما يحدثه به عقله العراقي الصافي، الذي جبل عليه.

*كاتب عراقي