جمهورية غزة..!

TT

الدم الفلسطيني الذي كان محرما على البندقية الفلسطينية لم يعد كذلك، التشنج المتزايد بين الفصائل الفلسطينية بات قاتلا بكل معنى الكلمة، وتساقط الضحايا المستمر الواحد تلو الآخر في مشهد بائس وحزين هو الدليل الدامغ الذي يوضح أن المشكلة الفلسطينية ـ الفلسطينية مهددة بالانفجار الهائل. والحديث المتزايد عن سيناريو حرب أهلية فلسطينية محتملة مخيف وسيكون بمثابة قنبلة تغير من وحدة الصف، وتغير من أولويات القضية الأساسية نفسها. ولكن هل هذا السيناريو المطروح هو نهاية المطاف ؟ إذا كانت هناك أية قيمة للتاريخ فهي في الدروس التي من الممكن الاستفادة منها والعبر التي يجب الانتباه لها والحصول عليها. بعد استقلال شبه القارة الهندية، قامت جمهورية باكستان بجزءيها الشرقي والغربي وكان «الزواج» بين الضفتين وعلى غير سوية، واستمرت إثارة المشاحنات الكثيرة بين الجهتين حتى تطورت الأمور، وقامت الحرب الاهلية بينهما التي انتهت بالانفصال واقامت جمهورية بنغلاديش في باكستان الشرقية. وهذا السيناريو قد يكون مرشحا جدا للتكرار في الحال الفلسطيني الملتهب. غزة معقل حماس الأهم (وهذا كان السبب الرئيسي وراء انسحاب اسرائيل الأحادي من قطاع غزة) لها خصوصيتها المهمة من جهة الكثافة السكانية والوجود القوي جدا لحركة حماس فيها. هناك إحساس متزايد في أكثر من وسط فلسطيني بأن لغزة خاصية دون سائر مدن الضفة الغربية، وهذا الإحساس يعمل على تقنينه ومأسسته بشكل مستمر. فالتعايش «المستحيل» بين السلطة وبين حماس لم يعد سرا، ولكنه بات أيضا باهظ التكلفة متسببا بشكل مباشر في هدر الأرواح وهدر الأموال أيضا وهز الثقة في المستقبل. قوى التطرف في المعسكرين تدفع بقصد أو بدون قصد نحو سيناريو الحل النهائي دولتين فلسطينيتين، واحدة وطنية وأخرى دينية، وكأن الفلسطينيين (الذين لا يزالون في معاناة شديدة جراء تقسيم اراضيهم منذ عام 1948) بحاجة لتقسيم جديد يجزئ المجزأ ويفتت المفتت ويقسم المقسم. الفلسطينيون فيما بينهم كانوا دائما يرددون أن أهل غزة غير، وأن غزة نفسها لها طابع فريد خاص، ولكن ما يحدث الآن على الساحة السياسية في فلسطين من شأنه أن يطور الأمور بشكل درامي لا رجعة فيه. ما ذنب المواطن الفلسطيني أن يستمر في معاناته من بني جلدته، ويحصر خياراته بين «فساد» السلطة و«تطرف» حماس ؟ «جمهورية غزة» التي قد تتطور الأمور لتصل اليها، هو حل يرضي «أطرافا» كثيرة ولكنه حتما هو نهاية لحلم فلسطيني طويل، والأصعب أن تكون هذه النهاية المرة ذاتية الصنع.

[email protected]