مسمار جحا

TT

لا الافراح تكتمل إذا كانت لاسرائيل علاقة بها ولا المآسي تختتم ايضا... وخطة الانسحاب الاسرائيلي العسكري من جنوب لبنان، باستثنائها لبضعة امتار مربعة من الشطر الغربي من قرية الغجر ومن سهل مرجعيون، تجربة أخرى في فن برع حكام اسرائيل في اتقانه: فن الابقاء على «مسمار جحا» في كل ارض يجلو جيشهم عنها.

مع مصر، ورغم اتفاق السلام المكلف عام 1978، كانت منطقة طابا «مسمار جحا» الانسحاب من سيناء الى ان اقتلعه، سلميا، تحكيم دولي.

ومع لبنان، وقبل قرية الغجر، لعبت مزارع شبعا دور «المسمار» الجديد الذي أصبح مسمارا مكلفا بعد أن «علق» حزب الله عليه ايديولوجية «مقاومة وطنية» واستراتيجية «ردع» و«توازن رعب»،... فكان ان تحول إلى «اسفين» لبناني ـ لبناني، بعد فشل مؤتمر الحوار الوطني في الاتفاق على مصير سلاح حزب الله، وسوري ـ لبناني بعد اخفاق بيروت في الحصول من دمشق على تأكيد خطي، وقانوني، على لبنانية المزارع.

عوّدتنا اسرائيل، بعد احتلالها لأية «تلة» أو«مزرعة» في الجولان او الجنوب اللبناني، على تبرير هذا الاحتلال بالحديث عن «استراتيجية» الموقع المحتل. ومع ان بلدة الغجر تتربع على تلة تشرف على نهر الوزاني اللبناني، ومع ان البلدة كانت تشكل «فجوة أمنية» في السياج الحدودي بين لبنان واسرائيل يجري عبرها تهريب الاسلحة والمخدرات...فإن احتلالها لن يقدم أو يؤخر، استراتيجيا، في معادلة ميزان القوى في الشرق الاوسط، فيما يناقض، سياسيا، منطق حكومة اولمرت العلني بان نشر قوات دولية في الجنوب يشكل «رادعا» لعمليات حزب الله العسكرية. وإذا كان احتلالها يعني ان حكومة اولمرت لا تزال تعتبر وقف اطلاق النار هشا، فان تسلسل الاحداث على ارض الجنوب لا يوحي بانه مرشح للانهيار رغم ان الحرب لم تضع اوزارها كما كانت اسرائيل تشتهي:

ـ دبلوماسيا، لم يسبق لأية حرب اسرائيلية ـ لبنانية سابقة ان شهدت «التدويل» الذي شهدته حرب الثلاثة وثلاثين يوما، الامر الذي يؤكده التعزيز الدولي المتواصل لقوات «يونيفيل»، عدة وعددا.

ـ ميدانيا، باشرت اسرائيل تأهيل منطقتها الشمالية وبدأت السلطات اللبنانية، بالمقابل، عملية إعمار الجنوب والبنى التحتية المهدمة.

ـ لبنانيا، استكمل الجيش اللبناني انتشاره على الحدود بعد غياب دام ثلاثة عقود وحزب الله، رغم تصريحاته الاستفزازية عن استمرار وجوده على الحدود «بسلاح غير ظاهر»، يظهر التزاما ظاهرا بالقرار 1701 ما يوحي بان خطابه المتشدد موجه الى الداخل اللبناني أكثر مما هو موجه لاسرائيل. من هنا ضرورة التساؤل عن نيات حكومة أولمرت الدفينة في الابقاء على احتلالها لبلدة الغجر في وقت تنتظر فيه الاسرة الدولية تطبيقا كاملا لبنود القرار الدولي 1701، وبالتالي «مرونة» اسرائيلية في التعامل مع «مسمار» مزارع شبعا ـ بعد ان ادرجه القرار الدولي على قائمة القضايا المطلوب نزعها ـ لا دق «مسمار» جديد في الغجر...إلا إذا كان إدعاء اسرائيل بان احتلال الغجر سيستمر «بانتظار التوصل الى اتفاق مع القوة الدولية والجيش اللبناني على الوضع الامني في هذه المنطقة» منطلقا لرغبة، غير معلنة بعد، في المساومة على القرار 1701، ان لم يكن لمحاولة الالتفاف على بعض بنوده، وربما البند المتعلق بموضوع مزارع شبعا بالذات.

مع ذلك تبقى إشكالية استمرار الاحتلال الاسرائيلي لبلدة الغجر في بعده السياسي اللبناني، ففي وقت يحاول فيه حزب الله وحليفه، الجنرال ميشال عون، دفع الوضع الداخلي نحو أزمة حكم، سوف يرى الاحتلال بانه تأكيد ـ اسرائيلي هذه المرة ـ لمنطق حزب الله في التمسك بسلاحه وتأكيد لمقولته بان لا تحرير لارض تحتلها اسرائيل من دون اللجوء الى السلاح.

وفي حال استمرار الاحتلال لبعض الوقت وتوظيفه لتحقيق مطالب أمنية اسرائيلية خارجة عن إطار القرار 1701، قد تؤدي مشاعر الاحباط من امكانية التوصل الى تسوية دبلوماسية لقضايا لبنان العالقة مع اسرائيل إلى عودة طروحات «التحرير» الى الساحة السياسية وبالتالي ترجيح كفة حزب الله في عملية شد الحبل القائمة حاليا في بيروت حول من يحكم لبنان: جماعة الشرق الاصولي الشمولي أم جماعة الغرب الديمقراطي اللاطائفي ؟

... وهنا خطورة قرار الاحتلال الاسرائيلي.