رمضان جانا وفرحنا به

TT

حدثني صديق فقال إن فيلم عمارة يعقوبيان مطلوب مطلوب مطلوب في كل المهرجانات، وانه مرشح للاوسكار. والحقيقة هي انني سعيت لمشاهدة الفيلم، اثناء وجودي في القاهرة، واعترف بأنه يتضمن كوكبة من النجوم، الذين تضافرت جهودهم فارتفع الاداء التمثيلي وارتقى الى اعلى المستويات. وأعترف بان رواية علاء الاسواني، التي بني عليها السيناريو، هي ايضا من أوسع الروايات المصرية انتشارا. واعترف بأنني حين التقيت بمروان حامد مخرج الفيلم، وابن التسعة والعشرين عاما، فرحت به وقلت لنفسي عمار يا مصر.

واعترف ايضا بأنني بكيت، والله شهيد، حنقا وكمدا اثناء المشاهدة، لأن رسالة الفيلم والمضمون الفكري، اللذين يروج لهما ملآني غما. فهما دعوة صريحة لكتابة شهادة وفاة لمصر والمصريين، وكأن سبعة آلاف عام من التاريخ والحضارة بركت كالجمل المريض واستعدت للفظ النفس الاخير. وحين عبرت عن هذا الرأي قيل لي ان صانع الفيلم ليس مؤرخا وليس مصلحا ثقافيا. ولكن يا اخواني لماذا نجلس شاخصي الابصار للمشاهدة؟ ألا نبحث عن فكرة؟ أو عن انفسنا أو عن اخرين نعرفهم في الشخصيات والحوار والدراما؟ ألا نبحث عن توكيد بأن جزاء الاحسان هو الاحسان وان المذنب يتلقي عقابا؟ انها رواسب قد تكون طفولية ولكن منشأها هو مظلة الثقافة والدين، التي تظللنا جميعا من المحيط الى الخليج .

في شهر رمضان من كل عام تتبارى شركات الانتاج في عرض المسلسلات الجديدة، وقد لعب الفانتازي واللامعقول ادوار البطولة في العام الماضي. هذا العام ادخلت بعض التعديلات، وقد اكون واهمة في ظني من ان اثنين من المسلسلات وربما اكثر، يحملان رسالة، هي رد علي عمارة يعقوبيان. كلاهما ينظر نظرة فاحصة الي مبادئ واخلاق الطبقة الوسطى المصرية، التي ألغيت من حسابات كاتب رواية يعقوبيان. وكلنا يعرف ان الطبقة الوسطى في اي مجتمع هي عموده الفقري وحامل الاثقال وموصل ديناميكية الفكر والمجهود الذي يبني الصرح الكبير.

في المسلسل، الذي يقوم ببطولته الفنان نور الشريف، يتعرض معلم ثانوي الى بطش ذوي النفوذ والمال، لأن ابنه الطالب الجامعي تعرض للاذى على ايدي ابناء فاسدين، وأبت نفسه الا ان يلجأ للقانون للمطالبة بحق المجنى عليه. والرجل الذي ربى اجيالا من طلبة المدارس وعلمهم معاني الشرف والامانة والحق، انما فعل ما فعل لكي يعلم اولاده ان المطالبة بالحق شرف. وعليه اعتبرت الاطراف الاخرى في القضية انه تطاول على اسياده ففتحوا عليه نار النفوذ والسلطة، بحيث افتعلوا له تهمة كلفته عمله وتدخلوا فالغيت بعثة دراسية كان زوج ابنته مرشحا لها، وخير زوج الابنة إما ان يطلقها او على البعثة السلام. وما زال في الصراع بين الخير والشر بقية. اما المسلسل الذي يقدمه الفنان يحيي الفخراني، فهو ايضا يتحدث عن الاخلاق وكيفية التعامل مع الفساد والشر. فهو استاذ جامعي مرشح في الانتخابات تحاك من حوله شبكات عنكبوتية لتجره نحو مدارات المال والسلطة والانتهازية، فهل تتغلب طبيعته الخيرة على اثقال مغريات السلطة وعثراتها؟

في كلتا الحالتين اجلس امام الشاشة الصغيرة وكلي تأهب وأمل في ان ينتصر الخير على الشر وتنشط بداخلي الطفلة التي تعلمت مبادئ الاخلاق على يدي اب لا يختلف عن الشخصيات المرسومة في تلك المسلسلات: اب عطوف سمح يجلس مع اولاده على مائدة الطعام ويروي لهم ما حدث له في يوم العمل بهدف ان يعلمهم شيئا نافعا. وكم افتقر المجتمع المصري الى قدوة الاب في السنين الاخيرة التي شهدت هجرة الاباء الى الخارج لكسب المال.

لو حققت الدراما الرمضانية لي ما أتمنى وانتصرت قوى الخير على قوى الفساد لشعرت بأن الدموع التي ذرفتها اثناء مشاهدة فيلم عمارة يعقوبيان لم تذهب هباء. وان طبقات التاريخ والحضارة والفكر والاخلاق في مصر لا تزول بجرة قلم، مهما رحبت المهرجانات الدولية.