هذا الإعلام العربي: عَرَضٌ أم مَرَضٌ؟

TT

لماذا يمجد إعلامنا جمال عبد الناصر المهزوم في 67، ويكيل التهم والتخوين لأنور السادات المنتصر في 73؟ لماذا مازال البعض يصفق لصدام حسين الذي قتل أكثر من مليوني عراقي وشرد بلدا بأكمله؟ لماذا نكذب الصحافة الاسرائيلية في كل شيء ونصدقها إذا كان في أخبارها توريط لدولة عربية مهمة؟ لماذا يهرول إعلامنا باحثا فيما «وراء خبر» ملفق، بينما كاميرات تلفزتنا لا تصور لنا، ولو لقطة واحدة، عن وزير عربي يسبح في نهاريا في اسرائيل؟ هل لأن الكاميرات تخجل من العري، أم لأن العري السياسي هو شفافية لا تلفت الأنظار في نادي العراة؟ أو ربما كانت قناة «وزير السباحة» تلهث «وراء خبر» بعيد حتى تستر عورة القريب!

لماذا لدينا آلاف الصحافيين من ذوي الحناجر القوية التي تدين السادات لأنه طبّع مع اسرائيل، بينما الصحافيون انفسهم يتقاضون مرتبات ثابتة من قناة الوزير السابح في نهاريا، ويتحفنوننا برؤياهم على شاشتها كل يوم؟ أم أن هذا ما يمكن تسميته بـ«التطبيع عن بعد»، على غرار الاستشعار عن بعد؟

هل تحقير المنتصر وتبجيل المهزوم هما من ذات جنس الثقافة التي تلهث وراء لقاء سري مزعوم، بينما لا يستوقفها العري السياسي في بحيرة طبريا ونهاريا وايلات؟ وهل يغفل رجال «الممانعة»، و«رافضو التطبيع»، وكذلك «المجاهدون» عن انهم يلتقون مع اسرائيل من خلال الكفيل السابح، ثم يزايدون على الآخرين في الوطنية؟ هل هؤلاء بهلوانات يلعبون ألاعيب حواة، أم أنهم منافقون؟

معظمنا يسأل هذه الأسئلة، وربما تؤرق الكثيرين منا كل يوم. تذكرت السؤال الأول قبل يومين في ذكرى اغتيال السادات، ثم جر السؤال وراءه أسئلة اخرى كثيرة لم أذكر إلا اليسير منها هنا، وفجأة وجدت نفسي أمام منظومة ثقافية كاملة من الانفصام السياسي العربي (شيزوفرينيا عربية)، لا بد من المباشرة في حوار جاد حولها. فمهما علا الصوت، ولعلعت الحناجر، وتلونت الشاشات، فإن هذا لن يغير في حقيقة الامور، ولن يستر عورة.

في مصر، يذكر السادات همسا وخجلا، بينما كثير من الألسن يلهج بحمد عبد الناصر الذي ما زالت صوره ترفع في مظاهرات ميدان التحرير، بعد ما يقرب من الـ35 عاما على رحيله.

إذن، هل نحن هنا أمام ثقافة الهزيمة التي ترفع ناصر المهزوم في حربه إلى درجة القداسة، وتدوس على صور السادات المنتصر في حربه، على الملأ وقي قلب الميدان؟ أم أننا سجناء كلام نسجناه حول أعناقنا كحبل المشنقة، ولا فكاك لنا منه؟

هل هذا داء عربي عضال، أم أنه فيروس مصري بالأصل ثم انتشر من خلال هيمنة مصر الإعلامية؟ هل نحن أمام عرض من أعراض الثقافات الفاشلة؟

ستقرأ عزيزي القارئ هذه الأسئلة ربما بعد عشرة أعوام من اليوم، وتجدها مناسبة لأحوالنا، لا لأنني أستشرف الغيب، ولكن لأن عالمنا العربي ـ على ما يبدو ـ مجمد في الزمان لا يتحرك فيه فكر جديد، فقط اجترار لمقولات تبدو في لغتها الأم منمقة مدهشة، لو ترجمت إلى أي لغة أخرى بغية التواصل مع الآخر، لبدت فارغة من المعنى، كأنها تبجحات مراهقين.

أعتقد أننا أمام لحظة الحقيقة الآن. لنعترف أن ثقافتنا، كمدننا، ثقافة فاشلة تتعيش على الكلام المفرغ من المضمون، تزهد لكثرة الخيبات بالنصر والمنتصر. ولنأخذ مثلا على ذلك الاعلام العربي، فقناة «وزير السباحة» بلغت من العمر عشر سنوات، ولم تفجّر لنا قصة صحفية واحدة حتى الآن، حتى في قصة التسريبات التي تناولتها طوال الاسبوع الفائت اعتمدت تلك القناة على صحيفة عربية مغمورة وراء الخط الاخضر، ولم تدرك بعد الدور النخبوي للاعلام في نهضة المجتمعات، والأخذ بيدها إلى حياة أفضل يستحقها الانسان العربي، بل ما زالت تتبنى تبجحات المراهقين، وكأن عشر سنوات ليست كافية لأن تبلغ مرحلة النضج. وهنا يحضرني سؤال آخر: لماذا يصفق عرب كثيرون لقناة لم تضف اليهم معلومة جديدة بقدر ما تعيد انتاج القديم بلون اسلاموي، وحتى قصة سجن أبو غريب هي قصة سي بي اس الامريكية.

هل حالة الانحطاط الثقافي والاعلامي، التي نعاني منها، هي من تبعات الهزيمة العاطفية والفكرية والعسكرية الكاسحة لحرب 67، التي أصابت نتائجها الأجيال العربية بالكساح الفكري، فاختلت الأسس والمرجعيات التي كانت قد اطمأنت إليها الجموع العربية. هل هذا هو المعادل الاعلامي لسؤال: لماذا يصفق المصريون لناصر، الذي خسر ثلث الأرض المصرية، ويدينون السادات الذي حرر الأرض وأعادها إلى الوطن الأم؟ عندما حاول المصريون تسجيل تاريخهم سينمائيا، قدم الراحل أحمد زكي فيلم «ناصر 56»، ثم تبعه بفيلم «السادات». شاهدت الفيلمين في القاهرة، واستمعت إلى كثير من تعليقات من شاهدوهما، وقرأت الصحف وتقييمها للفيلمين، لاحظت حالة الزهو والاعتزاز بالشخصية الناصرية في الفيلم الاول، وحالة الالتباس واختلاط المشاعر والانقسام بالنسبة للفيلم الثاني. خرجت من السينما في الحالتين أسأل نفسي السؤال ذاته الذي أطرحه في هذا المقال: لماذا تبجل ثقافتنا المهزوم، وتلعن المنتصر؟!

الإعلام المصري، في معظمه، يبدو اليوم خائفا أن ينطق بكلمة ثناء على السادات من دون أن يتبعها بـ«لكن»، رغم كل المسافة الزمنية التي مضت منذ اغتياله في اكتوبر 1981، أي ربع قرن. هناك قلة قليلة خجولة تناصر السادات ومواقفه، لكنها تناصره في جلسات العشاء الخاصة، ومع أصدقاء موثوق بهم، حتى لا تتسرب عبارات الثناء الى الصحافة، لأنهم يرون أن ضبطهم متلبسين بالثناء عليه هو موقف أخلاقي يحسب ضدهم. قلة قليلة أيضا تكتب عن السادات في ذكرى انتصار اكتوبر، وعندما تفعل فإنها تناور كثيرا في الكتابة لتجنب ذكر اسمه، فيتحدث بعضهم عن معجزة الجيش المصري، أو النصر المصري، الضربة الجوية، العبور، أو حرب رمضان .. الخ، كلها محاولات مكشوفة لتجنب ذكر اسم من صنع هذا كله، أو من هو بالفعل «ما وراء الخبر».

سبب هذا الخوف لدى الصحافيين يرجع في الأساس إلى حالة الإرهاب الفكري الذي تمارسه مافيات إعلامية ذات ميول فاشية لتخويف الصحافيين الجدد من الاقتراب من أي حديث معقول عن السادات. هذه القلة للأسف تمكنت من الإعلام المصري أيضا، وانتشرت كما مستوطنات سرطانية ترهب وتحرض، ليتعلم الآخرون الدرس. فأساس الإرهاب ليس القتل الجماعي، وإنما التمثيل بالمواقف والأفراد على شاشة قنوات المافيا. عودة إلى حالة صدام. قيل كثيرا عن فشل أميركا في اكتشاف أسلحة الدمار الشامل في العراق، ولكن ـ كما قال أحد الأصدقاء ـ أميركا وجدت في العراق أخطر سلاح للتدمير، هذا السلاح هو صدام حسين نفسه، الذي قتل أكثر من مليوني عراقي ما بين حروبه غير المنتهية، ومقابره الجماعية، ومجازر الأكراد، الى آخر إنجازاته الدموية. أي سلاح دمار شامل أخطر من هذا الرجل الذي قضى على أكثر من مليونين من أبناء شعبه. ومع ذلك، نجد للأسف، بعض العراقيين والعرب ما زالوا يمجدون صدام حسين، الذي أضاع العراق، ونقل نفسه من حالة رئيس دولة إلى حالة رجل أشعث أغبر مقبوض عليه في حفرة، ويعتبرونه بطلا، بينما يتهمون من يحاولون الآن إعادة إعمار العراق، وبسط الأمن وبناء وطن معافى، بأنهم مجموعة من الخونة والعملاء. هذا ما تقوله لنا قناة «وزير السباحة» صباح مساء.

عارض مرضي إعلامي آخر استوقفني، فقد قدمت لنا «الجزيرة نت» استطلاعا للرأي حول: من السبب في الأزمة الفلسطينية الراهنة، هل هي «حماس» أم «فتح»؟ فبينما قال 72% من المشاركين في الاستطلاع، إن «فتح» هي السبب، رأى 5% فقط أن «حماس» هي السبب، بينما رأى حوالي 20% ان اسرائيل هي السبب.

من يتمعن في هذا الاستطلاع ونتائجه، يعرف أن مؤيدي «حماس» هم 72%، ومؤيدي «فتح» هم فقط 5%. ومن يقارن هذا الاستطلاع بكل استطلاعات برنامج «الاتجاه المعاكس» على القناة ذاتها، يرى تقريبا النسب نفسها، 5% للعقلاء، وربما 80 إلى 90% لـ«المقاومين» و«المصفقين» للمهزوم. وبتحليل منطقي، وباعتبار أن هذه الاستطلاعات على «الجزيرة» تستمر بهذا النمط، وبهذه النسب، في كل البرامج وكل القضايا، نستنتج أن المشاركين في استطلاعات «الجزيرة»، هم إذن 5% من العقلاء، و95% من الغوغاء. هذا الاستطلاع يخبرنا عن نوعية مشاهدي القناة، أكثر مما يخبرنا عن القضية المطروحة.

هذا ما يمليه المنطق، وليس لدي تفسير آخر للعالم كما تقدمه لنا قناة «وزير السباحة»، التي تغض النظر عن عري السابح في نهاريا، وتغرق في سكرة التسريبات! ويبقى سؤال وتحد. اما السؤال فهو هل حان الوقت لحوار جاد حول ثقافة منفصمة تمجد المهزوم وتدين المنتصر، وتصفق لمن يبيد البشر، وتكيل التهم لمن يبني الانسان والوطن؟ وأما التحدي فهو هل يستطيع المعترضون الاجابة على اسئلة هذا المقال دونما هروب الى الهجوم على شخص الكاتب؟!