خياران لا ثالث لهما أمام شبح العنصرية

TT

جاك سترو، أحد أركان الحكومة البريطانية العمالية (لاحظوا... العمالية) الحالية، ينزعج من المحجبّات.

المستر سترو، اليساري سابقاً، أدلى بدلوه خلال الأسبوع المنصرم في الجدل العبثي والسيئ التقدير في ملف العلاقات التنافرية بين الأديان والأعراق. والمؤسف أن هذا الملف الخطر يُفتح هذه الأيام ولا يغلق لأسباب عدة .. إذا سهُل على الواحد منا تعليلها منطقياً.. يتعسّر عليه تبريرها أخلاقياً.

فقبل بضعة أشهر هيّجت الرسوم الكاريكاتورية للرسول (ص) التي نشرت في إحدى المطبوعات الدنماركية ملايين المسلمين على امتداد المعمور، ثم جاءت كلمة البابا بنديكتوس السادس عشر في جامعة ريغنزبورغ يوم 12 سبتمبر (أيلول) الماضي لتكرّر الهيجان والضيق. وفي بريطانيا خلال يوم واحد ـ ما لم أكن مخطئاً ـ أثيرت عاصفتان تتصلان بالإسلام والمسلمين، إحداهما اعتراض البعض على طلب شرطي بريطاني مسلم إعفاءه من مهمة حراسة مقر السفارة الإسرائيلية بحجة ضيقه من السياسة الإسرائيلية إزاء اللبنانيين والفلسطينيين، والثانية إعلان سترو كتابةً إنه يفضل ألا تضع الحجاب النسوة اللواتي يراجعنه في مقره النيابي بدائرته في شمال غرب انجلترا.

أوساط في المجتمع البريطاني ـ لا حاجة للقول إنها تسدي بعدائها للإسلام أكبر خدمة للتيارات الأصولية والتكفيرية المتشددة ـ أثارت المسألة الأولى كما لو أن الجالية اليهودية كانت ستفرح أو ستطمئن إذا علمت أن أحد حرس السفارة الإسرائيلي مسلم من أصل عربي! بل أن ثمة جانباً أغفله المتاجرون عمداً باستفزاز المشاعر العنصرية هو أنه لو وقع حادث ما للسفارة أو ما حولها واكتشف أن أحد الحرس مسلم عربي... أما كان هذا المسكين سيوضع ضمن دائرة الشك والشبهات؟

ولكن، ماذا عن سترو، الذي يأتي كلامه المكتوب، بعد مواقف وزير الداخلية جون ريد ومطالبته المسلمين بالانسجام في المجتمع والحرص على ألا يسقط أولادهم «فريسة للإرهابيين»؟

مما لا شك، فيه أن تفجيرات 7 يوليو (تموز) 2005 التي استهدفت العاصمة البريطانية لندن شكلت مفترق طرق بالغ الخطورة على صعيد نظرة البريطانيين عموماً إلى الإسلام. وبغض النظر عن المساعي المشكورة التي بذلتها الحكومة البريطانية وأيضاً الجهات والشخصيات الإعلامية العاقلة لطمأنة مسلمي البلاد واحتواء ردات الفعل العنصرية، فإن التيار العنصري استفاد من جريمة التفجيرات واستغلها لتعزيز حضوره ... وهو أمر أكثر من طبيعي.

مع هذا هناك حاجة إلى مقاربة صريحة ومسؤولة، ليس في بريطانيا والغرب فحسب، بل حتى في العالمين الإسلامي والعربي، لملف الـ«نحن» والـ«هم».

نعم توجد الآن حاجة ماسة لتحاشي الانزلاق نحو تغذية الخوف المتبادل والشك المتبادل ـ وبالتالي الكراهية المتبادلة ـ بين مكونات المجتمع، الأصيل منها والمهاجر، الأبيض والأسمر والأسود، المسيحي والمسلم والهندوسي والبوذي... إلخ.

إطلاق الكلام على عواهنه قد لا يشكل في حد ذاته «جريمة عنصرية»... لكن، كما يقال، رحلة الميل تبدأ بخطوة واحدة، والتغافل عن وجود «سوء فهم» أو حساسيات ما إنما هو سلوك مؤذ لقضايا الاعتدال والتسامح والتعايش.

قبل أيام ارتكب رجل مختل جريمة فظيعة في قرية يقطنها أبناء طائفة الآميش المسيحية الانطوائية الصغيرة في الولايات المتحدة، أعادت تسليط الضوء على هذه الطائفة ـ المنتمية لإحدى الجماعات الخارجة عن البروتستانتية اللوثرية والمعتمدة مبدأ تأكيد التديّن بعمادة (اغتسال) البالغين ـ. وما أود قوله هنا أن جدود أبناء هذه الطائفة وغيرها على امتداد أميركا الشمالية هاجروا إلى العالم الجديد في الأساس هرباً من الاضطهاد الديني في أوروبا. واليوم يشكل التسامح الديني والرقي المؤسساتي في الدول الغربية عنصر جذب كبير للمضطهدين دينياً وعرقياً والطموحين اقتصادياً من شتى أنحاء العالم الثالث.

أكثر من هذا، في المجتمعات الأوروبية الهرمة توفّر الجاليات المهاجرة (المسلمة وغير المسلمة) اليوم دعامة اقتصادية وتنوعاً ثقافياً غنياً ومفيداً يقوّي بُنى هذه المجتمعات ويضخ دم الشباب فيها ... كما حصل في الأميركتين وأستراليا خلال القرون الثلاثة الأخيرة.

وعليه، أمام بريطانيا وجاراتها في أوروبا الغربية خياران: إما الأخذ بنصيحة قطاع المال والأعمال باعتماد التسامح، وسياسات الهجرة المدروسة، والتعاطي بنزاهة مع واقع الاختلاف الديني والعرقي. أو الاستسلام لغرائز العنصريين الإلغائيين بأمل الاستفادة السياسية القصيرة الأمد.

الأمل أن تكفل الديمقراطية نجاح الخيار الأول، خاصة أننا نعرف كيف يساهم انعدامها عندنا بتنامي نفوذ المتحمسين لإلغاء الطرف الآخر.