نقد «الشخصية المتدينة».. في العمل التلفزيوني

TT

لفترات طويلة ظلت الشخصية المتدينة والأفكار الإسلامية مهمشة في المعالجات النقدية، التي يقدمها النشاط الفني في العالم العربي، تجاهل هذه الشخصيات والأفكار في الأعمال الدرامية وعدم الاشارة لها سلبا أو ايجابا، كان مقصودا ويتم بوعي لمبررات هذا التجاهل، باستثناء مشاهد عابرة تفرضها طبيعة هذه الأعمال، كما في مظاهر العزاء وحضور المأذون لعقد القران وغيرها. اللافت أن تحييدها تم في أبرز فترات المد الثوري وانتشار الأفكار العلمانية والاتجاهات القومية والاشتراكية. كان هذا هو الخيار الأمثل في نظر المنتجين في مجتمعات محافظة ومتدينة مهما حدث فيها من متغيرات، وأنها ما زالت تفتقد لمقومات ثقافية ضرورية لاستقبال مثل هذه المعالجات الفنية لقضايا بالغة الحساسية. لكن تنامي دور هذه الشخصية في المجتمع العربي والإسلامي وفعاليتها وقدرتها على فرض تغيرات ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية ودينية، وبروز دورها الحضاري في تشكيل مجتمعاتنا المعاصرة سلبا أو إيجابا، جعل من هذه التجاهل والتحييد لأهم الأفكار والشخصيات المؤثرة في حراكنا الاجتماعي غير مفهوم، وزحزح تلك القناعة بمعقولية وإيجابية مثل هذا التهميش، والبعد عن المعالجات لبعض القضايا والأفكار الحساسة ذات العلاقة بهذه الشخصيات، وتغييب مكشوف لدور الفن في معالجة اشكاليات الواقع العربي كما هو. فبدأت تظهر بعض هذه الأعمال منذ سنوات ونشأت معها بعض المحذورات السياسية والاجتماعية المتوقعة مع غياب ملموس للمعالجات الرصينة، وظهور ملامح المتاجرة بالتنوير ومحاربة التطرف وركوب الموجة عند بعض المنتجين.

ولأن ظهور هذه الشخصية في الأعمال الدرامية، جاء في أزمنة صراع ومواجهات فكرية حادة بين أطياف من التيار الديني والحكومات العربية، مما يجعل النظرة الأولية لهذه الأعمال عند الكثيرين لا تخلو من الريبة السياسية ومتداخلة بين موقفه من هذه التيارات والحكومات، وتصويرها بأنها أعمال عابرة وموجهة فرضتها ضرورات المرحلة السياسية، وبأنها ليست نابعة من هموم حقيقية في أزمتنا الحضارية عند هولاء، وغياب ملموس للعمل الاحترافي في هذا المعالجات النقدية الحرجة. في مثل هذه الأجواء من المتوقع أن تسيطر معايير أخرى غير مهنية تغيب الحكم الموضوعي، وتفقد الأحكام الصادرة، سواء بالإشادة أو الإدانة قيمتها العلمية، لأنها تبدو في سياق حرب وتصفية حسابات بين تيارات وأجندة حكومات تحكمها المصلحة الوقتية، ومع هذه الأصداء العنيفة والمتناقضة يخسر المشاهد العربي قيمة هذه الأعمال وغنى اللغة التعبيرية المؤثرة للشاشة في معالجة واقعنا العربي.

ومنذ ظهور هذه الأعمال تعددت النقاشات والرؤى حول هذه القضية، من دون أن تقدم حلولا عملية لإشكالية هذا التناول، لأنه يغلب عليها الرؤي الانطباعية والمواقف التي تحكمها مصالحة ذاتية مؤقتة في ادانة هذه الأعمال أو تمجيدها. من الخطأ استمرار هذه اللغة في مثل هذه المسائل الحرجة التي قد تشعل أزمات فكرية وسياسية في مجتمعات ما زالت ثقافتها وتذوقها الفني محدودين، وتزداد احتمالية هذه المخاطر مع غياب واضح لمعايير تفصيلية يمكن الرجوع لها في الحكم على هذه الأعمال بالرفض والقبول. والاستقواء بالسلطة والاحتماء بها للاستفادة من مرحلة تاريخية عابرة، هو مسكن وقتي يبطل مفعوله مع كل متغير جديد، وربيع الحريات العربي معرض للانتكاس في كل لحظة.

حساسية هذه الأعمال في تناول هذه الشخصيات ليست ناتجة عن تخلف فكري، وعقد مركبة عند المشاهد العربي، بقدر ما أنه يوجد تداخل حقيقي وعميق بين هذه الشخصية والفكر الديني الذي يحمله، ويشترك في كثير من قيمه الاسلامية مع مجتمعه، مما يجعل تهمة السخرية بالدين وخروج فتاوى قاسية في الحكم على هذه الأعمال أمرا متوقعا، والنفي المطلق من أصحاب هذه الأعمال في حواراتهم الصحفية ولقاءاتهم التلفزيونية في عدم استهداف الاسلام وقيمه في الاساءة، لم ينجح في تغيير مضمون وحدة هذه التهم وإزالة ما يحدث من لبس عند المشاهد.

قد يرى البعض إمكانية التمييز في هذه المرحلة نتيجة وجود مؤثر لحركات اسلامية ناشطة سياسيا واجتماعيا، تجعل من تناول هذه الشخصيات بأفكارها السائدة، قابلا للفصل بين ما هو خاص ببعض الممارسات وبين الاسلام كغيرهم من مكونات المجتمع الإسلامي، إلا أن معطيات الواقع تقول غير ذلك، فحتى نقد مؤسسات دينية أو جهات تعليمية محددة كجزء من مؤسسات الدولة في هذا العصر أحدث هذا اللبس في تضخم أوهام محاربة الفضيلة وقيم الاسلام. نتيجة عدم وجود معايير وضوابط متفق عليها تخفف من حدة هذا التداخل، ومع كثرة الأخطاء الغبية في مثل هذه الأعمال، تنشأ الأضرار الفكرية المزمنة داخل المجتمع. لن يكون الحل في تجاهل واقعية ومعقولية هذا التداخل والتعالي عليه بحجة عدم وجوده، ونحن نرى الكثير من النخب والمعتدلين غير المحسوبين على تيارات فكرية وحركية حدث عندهم هذا التشويش وتقبلوا بسهولة رسالة الرفض القاطعة والأحكام القاسية على هذه الأعمال.

هل يكفي أن نقول إن نقد الشخصية المتدينة وسلوكياتها لا يعني نقد الاسلام وقيمه، وأنها ليست حربا ضد الدعوة .. وهل من السهولة استقبال تهم كبرى كالسخرية بالإسلام وأحكامه من خلال مقولات وفتاوى متعجلة تقود ضمنا إلى خانة التكفير.. انطلاقا من تهمة السخرية بالدين وأحكامه..!؟ الخلاف هنا ليس شكليا أو ومجرد وجهات نظر في استقبال مثل هذه الأعمال من قبل جمهور عريض في مجتمعات محافظة. الاختلاف هنا حاد وضار في ظل غياب مرجعية مهنية وعلمية لتقييم مثل هذه الأعمال. خيار كتابة البيانات ورفع القضايا والمحاكمات دون وجود هذه الأسس المعيارية للصواب والخطأ في هذا المجال يخلق من الأزمات أكثر مما يحل، إن العشوائية والاجتهادات الفردية الذي ظهرت بها كثيرا من هذه الأعمال، وروح التعالي ووهم البطولات في محاربة الظلاميين عند أصحاب هذا العمل، خلقت تشوهات حقيقية في انتاج أعمال متقنة، في مقابل تيار فكري يرفض من ناحية المبدأ تناول هذه المسائل وعدم تقديم اقتراحات عملية في إزالة هذا التداخل بين الإسلام، وبين بعض الشخصيات المتدينة، لتدعم الفقيه الشرعي في اصدار أحكام موضوعية.

عمليا يبدو التشابه في المظهر الخارجي بين المعتدل والمتطرف في فكره داخل المجتمع كبيرا، ومحاولات تحقيق هذا الفصل محدودة وفشلت في حالات كثيرة. قد تتطور مع الزمن آلية هذا الفصل بين استهداف بعض الأفكار والممارسات الخاطئة، وبين قيم المجتمع المسلم يرافقه تطور في ثقافة المجتمع في الوعي بهذه المعالجات الفنية مع تزايد وتنوع المحاولات، هذا التطور لن يحدث دون حدوث نقلة نوعية في انتاج هذه الأعمال، واستحضار المسؤولية الاجتماعية والفكرية في تناول مثل هذه الشخصيات والأفكار.

حساسية هذه النوع من الأعمال جعلت من بعض الأخطاء الفردية مدمرة لقيمتها الفنية، وذات خطورة في تعزيز التطرف بدلا من محاربته، فمن المفترض أن تعرض مثل هذه الأعمال على عدة شخصيات مهنية وعلمية قبل عرضها ليس بهدف الرقابة التي تعيق حرية العمل، وإنما للحد من الأخطاء وبعض المهازل التي تحدث، فالخبرات الفنية دون خبرة في طبيعة هذا الفكر وتشكلاته داخل المجتمع اضعف قيمة الكثير من المعالجات النقدية، وأحدثت معارك فارغة بين رؤي لا تخلو من التطرف ومنتج فاشل يتستر خلف شعارات تنويرية، ليمنع النقاد والنخب الثقافية من كشف أخطائهم.

في هذا الوقت من الصعوبة المطالبة أو التفكير بمنع ومحاصرة هذا النقد لهذه الشخصيات في المجتمع والعودة للطريقة القديمة في عملية تجاهل هذه الشخصية في الأعمال التلفزيونية والسينمائية رغبة في السلامة، والبعد عن الصداع السياسي والديني الذي قد تسببه، لأنها ليست مسألة كمالية يمكن تجاهلها، وإنما ضرورة حضارية تفرضها عدة متغيرات إقليمية وعالمية، ومن متطلبات التقدم الاجتماعي المفترض في نقد الممارسات الخاطئة من كل فئات المجتمع، واستثناء فئة بشرية تعيش معنا دون أخرى من النقد عملا ترفضه الرؤية العقلانية وقيم الاسلام في أزمنة عربية ما زالت تحتاج فيه تحطيم الكثير من الأصنام..!