سارتر وسيد قطب في ذكرى رحيلهما: فيلسوف الالتزام وداعيته

TT

تدرس الكاتبة الفرنسية شارلوت نوردمان في كتاب صدر لها أخيرا حول تجربة الالتزام لدى الفلاسفة وعلماء الاجتماع، أن مفهوم المثقف قد انتهى في الغرب، حتى ولو كانت معيارية الالتزام بقضايا المجتمع لا تزال قوية لدى الفلاسفة والمفكرين الغربيين.

وتبين الكاتبة أن عصر سارتر قد مضى، أي العصر الذي كان ينظر فيه للمثقف بأنه طليعة النضال الشعبي من أجل التحرر في إطار ثنائية المظلوم الأخرس والمفكر الواعي الذي يخترع للمضطهدين أدوات انعتاقهم.

فيما يميز اليوم الحركية الاحتجاجية في الغرب هو الحذر من السلطة المعرفية والرمزية للمثقف، باعتبار ان هذه السلطة تستبطن ضمنيا نمطا من القمع والإقصاء، يحول بينها والتعبير عن مصالح وتطلعات الجمهور الذي لا يمكن اختزاله في طبقة اقتصادية أو صنف اجتماعي، حسب تحديدات العلوم الاجتماعية التي هي في نفس الوقت تقييمات غير محايدة، لها شحنتها المعيارية الخفية.

فما تلاحظه شارلوت نوردمان هو ان جانبا كبيرا من الصراع يدور اليوم حول الخطاب نفسه الذي كان يحتكر شرعيته وصدقيته المثقفون، بتحقيق ما عبر عنه الفيلسوف جاك رانسيير باعطاء الكلام لمن ليست له شرعية الكلام.

ومن غريب الاتفاق أنه في الوقت الذي عاد فيه سارتر بقوة إلى واجهة الاهتمام الفكري في الغرب إثر مرور ربع قرن على رحيله (بعد أن دخل إلى زاوية الإهمال في العقود التي سيطرت فيها الفلسفات البنيوية والتفكيكية)، يعود سيد قطب إلى الواجهة في الساحة العربية بمناسبة مرور قرن على ميلاده وأربعين سنة على إعدامه في السجون الناصرية.

ولا شك أن الرجلين على اختلافها الواسع في الخلفية الفكرية والنشاط السياسي، تجمعها نقطتان مشتركتان هما من جهة سعة تأثيرهما في ساحتيهما ومن جهة أخرى تصورهما للالتزام العقدي والمجتمعي (وإن تباينت مرجعية هذا الالتزام).

فإذا كان من المؤكد أن تأثير سارتر في الفكر الغربي بعد الحرب العالمية الثانية لا يضاهيه أي تأثير، في حقبة المد الوجودي الذي سيطر على الفلسفة والآداب بل على نمط الحياة ذاته، فإن حضور كتابات سيد قطب في الحقبة نفسها داخل الساحة الإسلامية لا يضاهيه أي حضور.

ويجتمع الفيلسوف الوجودي والداعية الإسلامي في خاصية منهجية أساسية هي جمال الأسلوب ورصانة التعبير وتدفق العاطفة. ولا شك أن سيد قطب الذي كان ناقدا أدبيا مرموقا قد اطلع على الترجمات الأولى لروايات سارتر وكتبه، بل أن بعض المراجع تذكر أنه قبل أن يتحول إلى الإخوان المسلمين كان متأثرا بالوجودية، معتنقا لقيمها وأفكارها.

مات سارتر محتفى به بعد عمر مديد. فعندما قاد المظاهرات الطلابية عام 1968 وتحدى الشرطة، لم تتجرأ على التعرض له، وقال أوانها الرئيس ديغول كلمته الشهيرة «لا يمكن أن أضع ضمير فرنسا في المعتقل»، بينما أفرد مجلس الوزراء المنعقد يوم وفاته عام 1980 جلسته لتأبين فيلسوف فرنسا الكبير، وتصدر الرئيس جيسكار ديستان مشيعيه. أما سيد قطب فقد قضى سنوات عمره الأخيرة في السجن وأعدم شنقا عقابا له على كتاباته.. ويقال إن الرئيس جمال عبد الناصر عند ما قرأ كتابه الأخير «معالم في الطريق»، وهو في زيارة رسمية لموسكو اعتبر أنه وثيقة انقلابية خطيرة لا يمكن السكوت عنها فرفض شفاعة بعض الملوك والرؤساء والشخصيات الدينية التي تدخلت لديه لوقف تنفيذ حكم الإعدام الذي أصدرته المحكمة العسكرية ضد قطب.

بيد أن صوت الفيلسوف الذي حرك الشارع الأوروبي نهاية الستينات كما لم يحركه أحد بعد فولتير وروسو، خفت بعد عقد واحد من انتفاضة الجامعات. وتحولت الوجودية إلى تيار فلسفي وأدبي يدرس على الطريقة الأكاديمية ولم يعد خيارا سلوكيا أو نمط حياة. أما الداعية «الشهيد» فقد تحول إلى رمز لكل التيارات الراديكالية التي عرفتها الساحة العربية.. فأتباعه الذين تخرجوا في السجون المصرية شكلوا تنظيمات التكفير والهجرة، وحاولوا تطبيق نظريته في اعتزال المجتمع الجاهلي وبناء الطليعة المؤمنة التي ستحمل الدين إلى واقع الناس.

والأئمة الشيعة الإيرانيون الذين ترجموا أعماله، تأثروا به في ثورتهم ضد الشاه وفي إقامتهم لنموذج «ولاية الفقيه». بيد أن سيد قطب الذي اعتبره عن حق الصديق رضوان السيد الأديب الكبير الأوحد الذي أنتجته مدرسة الإخوان المسلمين، صار عبئا على الحركات الإسلامية الناشدة للشرعية السياسية. فنظريته حول الحاكمية وانتفاضة الطليعة المؤمنة لا تنسجم ومفهوم المشاركة السياسية ضمن نظام ديمقراطي، وتصوراته حول جاهلية المجتمع الحديث خطر على تعايش المسلمين مع غيرهم، في مرحلة رفعت التيارات الإسلامية شعار حوار الثقافات وتأصيل مبدأ الاختلاف داخليا ومع الآخر.

وإذا كان خليفة مؤسس الإخوان المسلمين (الإمام حسن الهضيبي) قد تحسس هذه المزالق، فكتب ردا ضمنيا على أفكار سيد قطب بعنوان «دعاة لا قضاة»، فإنه يمكن القول إن ما بقي من سيد هو صورة الشهيد البطل الذي احتفى بالموت باسما مدافعا عن مبادئه وعقيدته، وليس إنتاجه الفكري الذي إن كان طبعاته لا تزال تترى، إلا أن تأثيره الفعلي غدا محدودا في الساحة الفكرية السياسية الإسلامية.

إنها صورة البطل الذي حقق وجوده وفرض حريته عن طريق الموت.. وهي دون شك صورة سارترية رائعة من المأساة الوجودية.