دوها!

TT

«أجمل ما يميز الحارة الحجازية أنها كانت تعج بالأصوات ولا تعترف بالأسرار، فللبيوت أشياش خشبية لا تحجز الصوت، بل تسمح له بالصعود من الحارة إلى ساكنيها».. بهذه الكلمات قدمت الدكتورة لمياء باعشن لعملها المقروء والمسموع بعنوان «دوها» والذي ضم مجموعة كبيرة من الأهازيج الشعبية الحجازية التي تكاد تكون في حكم المندثر لولا أن وفق الله لها لمياء لتبعث فيها الحياة من جديد.

وتشير الدكتورة لمياء باعشن في مقدمتها إلى أن الحارة الحجازية كانت بأكملها مقبلة على الحياة بعفوية تامة، تتغنى في كل الأوقات، ففي الحارة يغني المداح والحمال والبائع والمسحراتي والعامل، ويتجمع الرجال في جلسات الطرب التي تتردد فيها المجسات والمواويل ومختلف أنواع الغناء، والنساء أيضا اعتدن على الغناء في مناسبات مختلفة، وقد خلفت لنا هذه الأجواء مجموعة كبيرة من الأهازيج الشعبية التي ينبغي إعادة إنتاجها كي نخرج من حالة الاستلاب التي تحاصرنا، ونخرج عن صمتنا المطبق أمام الضجيج الصاخب من حولنا «لنغني معا لأطفالنا حين يولدون، ولمطرنا حين يهطل، ولنلعب ونحن نغني، ولنضحك ونحن نغني، ولنبتهج ونحن نبقي هذا التراث ملء أسماعنا، نبقيه عالقا في ذاكرة أبنائنا يمارسونه ويتوارثونه جيلا بعد جيل».

لقد عشت مع هذا العمل المتميز وقتا رائعا، وأنا استمع إلى تلك الأهازيج التي يفوح منها عطر الزمن ورائحة التاريخ، ولم أتمالك نفسي من أن استجيب لدعوة الدكتورة لمياء بأن نستعيد نزعتنا المسروقة للغناء من ركاب الزمن، فوجدت نفسي أردد مع مجموعة الأطفال الذين شاركوا في إنشاد تلك الأهازيج غناءهم:

«دقوا القرنفل.. دقوا الهيل... جات العروسة في نص الليل

دقوا القرنفل دقوا الهيل... جا العريس في ربع الليل»

وقولهم:

«ياللا ترقد ياللا تنام... على مخدة ريش نعام

ست البنات ست أبوها... وجوا العرب يخطبوها

أبوها يأمر ويتشرط... وألفين يراضوا في أبوها»

بمثل هذه الكلمات الشعبية العفوية البسيطة كان الناس يرشون أزمانهم في تلك المدن العتيقة كي ترق الحياة وتلين وتحلو وتصفو.. وهذه الخطوة الأولى التي خطتها الدكتورة لمياء باعشن في مشوار الألف ميل تستحق الإشادة والمتابعة والدعم، فما رصدته في هذه المحاولة لا يشكل سوى القليل من تراث ثري متناثر في كل مدن السعودية وقراها، ويوشك أن يختفي إن لم نتداركه بالرصد والتدوين، فالشكر للمياء ولصالون المها الأدبي الذي رعى هذا العمل الجميل.

[email protected]