ثمن (المدينة الفاضلة).. بين ستالين والمحافظين الجدد

TT

هل هذا هو (الثمن) ؟.. بمعنى هل هذه هي (نظرية: نقتل الناس لكي يعيشوا أحرارا في قبورهم) أو لكي يعيش بعضهم سعداء؟!

منذ أيام صدرت دراسة علمية ميدانية تثبت ـ بالأرقام الموثقة ـ: ان 655 ألف عراقي قتلوا منذ الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003. وقد قامت بالدراسة جامعة جونز هوبكنز الامريكية بالتعاون مع جامعة بغداد. وترجح الدراسة: ان اعداد القتلى اكثر من ذلك حيث ان بعض الوفيات لم تسجل.

لماذا قتل هؤلاء الناس؟

من اجل (جلب الحرية للعراقيين)!! .. أي ان (حق الحرية) مقدم على (حق الحياة).

وهذا (ترتيب عدمي) للحقوق. ذلك ان المقتول لن يحصل على حريته. لأنه مات بداهة، وفي واقع الأمر. وقتل الناس بالملايين، او بمئات الألوف بدعوى (تحقيق سعادتهم)، انما هو (نظرية عقدية سياسية) طبقت على البشر المساكين في التاريخ.

ولئلا يظل الحديث عن التاريخ القديم: نكتفي بـ(نموذج دموي) من التاريخ الحديث.

للمفكر الامريكي زبغنيو بريجنسكي كتاب استراتيجي وثائقي تحليلي جد مهم يحمل عنوان (الانفلات)، أو (فوضى عالمية في مطلع القرن الحادي والعشرين).. وفي هذا الكتاب فصل عن (قرن المذابح المليونية)، أي القرن العشرين. وقد خص بالحديث في هذا الفصل: الزعيم السوفيتي الأسبق جوزيف ستالين.. يقول بريجنسكي: «ان الابعاد غير المسبوقة لسفك الدماء في القرن العشرين نجمت عن صراعات وجودية مركزية هيمنت على هذا القرن. ونتج عن هذه الصراعات اكبر انتهاكين اخلاقيين خطيرين جعلا القرن العشرين يتحول من زمن بشري الى جنون منظم.. الانتهاك الاخلاقي الاول هو الحربان العالميتان الاولى والثانية.. اما الانتهاك الثاني فهو (المحاولات الشمولية) لخلق ما يمكن ان يوصف بأنه (مجتمع فاضل جبري)، وهي مجتمعات اقيمت على اساس (التصفية الجسدية) لمن يدعي عليهم بأنهم (غير صالحين اجتماعيا).. لقد تفوق ستالين على هتلر في القتل، اذ ورث ستالين عن لينين آلة ابادة جماعية للمعارضين السياسيين والاجتماعيين. وبسبب لينين أبيد ما يتراوح بين 6 الى 8 ملايين انسان وذلك من خلال الاعدامات الجماعية في اثناء الحرب الاهلية وبعدها، ومن خلال القتل الرهيب الذي وقع في (جولاج) بتوجيهات من لينين.. وقد تضاعف هذا الرقم ثلاث مرات على يد ستالين الذي تسبب في قتل ما لا يقل عن عشرين مليون نسمة، بل ان العدد قد يصل الى خمسة وعشرين مليون نسمة. ففي المدة من 1937 الى 1938 وحدها قتل ستالين مليون نسمة رميا بالرصاص واحدا تلو واحد، هذا بالاضافة الى مليونين قتلوا في معسكرات العمل، كما اعدم مليون شخص خلال السنوات التي تلت صعود ستالين الى السلطة. بالاضافة الى هذا، فان روسيا الستالينية لها سجل اسود في معاملة اسرى الحرب، فطبقا للبيانات الالمانية التي كُشف عنها عام 1992 هلك حوالي ثلاثمائة وسبعة وخمسين الف اسير حرب الماني لدى السوفيت في اثناء الحرب وبعدها.. ولقد طبق الاسلوب الستاليني في جميع دول شرق اوربا بعد عام 1945.. ان دفتر الحساب المخيف لا يكتمل بدون حساب الارواح البشرية التي دفعت من اجل محاولات (بناء مدينة فاضلة شيوعية) في اوربا الشرقية وكوريا الشمالية وفيتنام وكمبوديا وكوبا. وتقدر اعداد الضحايا لهذه المحاولات بثلاثين مليون ضحية.. وباختصار فان الجهود الفاشلة لبناء (الشيوعية الانسانية) اهلكت ارواح ستين مليون انسان، وبذلك حققت الشيوعية التي جاءت من اجل الانسان: اكبر فشل انساني في التاريخ كله من حيث التكلفة والثمن، أي استباحة حياة الانسان في سبيل مبدأ يدعي خدمة الانسان وتحريره وسعادته».

وينبغي التوكيد عند هذه النقطة من السياق على مسألتين:

1 ـ المسألة الأولى: ان ستالين وهو يبطش ويقتل ويستبيح حياة الانسان، كان معتمدا على نظرية اعلى (فلسفة) عمادها:

أ ـ ان التاريخ البشري مملوء بالمظالم البشعة، وان اشنع هذه المظالم: تلك التي حاقت بالطبقة العاملة الكادحة.

ب ـ ان الشيوعية جاءت لتزيل هذه المظالم وتبشر بمجتمع تكون فيه (القيمة العليا) للانسان، وليس لرأس المال.

ج ـ ان على الطليعة الشيوعية ان (تساعد حركة التاريخ) في الوصول الى هذه الغاية.. وانما تكون المساعدة بالقضاء الدامي على اعداء الانسان الذي تريد الشيوعية تحريره وسعادته.

2 ـ المسألة الثانية هي: انه من الامانة الموضوعية والتاريخية: الشهادة بـ(الفروق) بين ما فعله ستالين، وبين ما جرى ويجري في العراق.. بيد انه من هذه الشهادة نفسها: تقرير ان هناك (عاملا مشتركا) بين الحالتين وهو (الاستهانة بحياة البشر في سبيل تحقيق دعاوى معينة: الشيوعية في صورة، والحرية في صورة اخرى).

يلحق بهذا القول: ان العراق قبل الاحتلال لم يكن خاليا من القتل والاستباحة، لكنه قتل (اقل) من حيث الكم: وفي كل شر، اذ ان قتل انسان واحد ظلما وعدوانا يساوي قتل الناس جميعا، ذلك ان الانسان الفرد يمثل (النوع الانساني كله) من حيث خصائص: الكرامة، وحرمة الحياة. ولذا جاء في التنزيل: «إنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا».. ان صدام حسين وزمرته يحاكمون اليوم بتهمة قتل الوف من العراقيين.. فكيف بمن قتل وتسبب في قتل ستمائة وخمسة وخمسين الف عراقي او يزيد؟

ثم لنخصص ما بقي من المقال للمحاور التالية التي نحسبها جد مهمة:

اولا: محور (الشراكة في المسؤولية) عن مئات الالوف من القتلى العراقيين هؤلاء.. فهناك شركاء آخرون في هذه الجريمة.. منهم:

أ ـ التيار الدولي الذي مالأ الولايات المتحدة او محافظيها الجدد في الحرب على العراق.. مثلا منذ يومين قال قائد القوات البريطانية في العراق: «إن قوات بلاده يجب ان ترحل عن العراق بأسرع ما يكون لأن وجودها أصبح عامل تأزيم وتأجيج وتعقيد للوضع في العراق».. الا ان هذه صحوة جاءت بعد فوات الاوان، ولا تنتقص ذرة واحدة من الشراكة في المسؤولية عن قتل اكثر من ستمائة الف عراقي عبر سنوات ثلاث.

ب ـ المعارضات التي تضحي بالاوطان وحياة اهلها من اجل (مكاسب حزبية وسياسية وامجاد شخصية).. نعم.. ليس من العدل: تحميل الامريكيين وحدهم مسؤولية هذه المجزرة البشرية الكبرى التي صبغت مطلع القرن الحادي والعشرين بالدم البشري المسفوح المستباح. فهناك (من اهل الدار) من يبوء بنصيبه الثقيل من المسؤولية.

ج ـ التناحر الطائفي الرجيم، وهو تناحر صنع الاحتلال الغبي او الخبيث: مناخه الواسع والمواتي والمغري.

د ـ (الكومبارس الاعلامي الثقافي السياسي) الذي طبل وزمر للحرب وصفق لها طويلا وبشر بثمارها الحلوة اليانعة الدانية للعراق واهله، وللمنطقة بأسرها.

نعم.. نعم.. ـ سبعون مرة ـ نعم: هؤلاء جميعا شركاء في قتل او التسبب في قتل 655 الف عراقي.. شركاء في الجريمة: بهذه الصورة او تلك.. لقد تحدث رجل ـ في مجلس التابعي الامام الشعبي ـ فقال كلاما معناه: ان عثمان بن عفان رضي الله عنه وجد ما يستحق«!!!!» فانتهره الشعبي وقال له: قم من مجلسي فإن عليك نصيبا من دم عثمان بن عفان.. وهذه المقولة قيلت بعد مقتل عثمان بسنوات طويلة. بيد ان (الرضى البعدي) بالجريمة جعل من رضي بها شريكا فيها!

لقد ظللنا نعارض ـ بحسم ومثابرة ـ : الحرب على العراق منذ ظهر ضبابها والى ان وقعت.. لماذا؟.. لأننا (ضد الحروب) من حيث المبدأ، ولكن لا نكون شركاء فيها بـ (الرضى) بها.. ولاننا كنا نعلم ان (مسوغات) الحرب محض اكاذيب، كما كنا نقدر ان عواقب الحرب ستكون (كوارث محققة وماحقة): على العراق، وعلى المنطقة، وعلى امريكا ذاتها، وعلى العالم كله: في هذه الصورة او تلك.

ثانيا: المحور الثاني هو: وجوب التفطن لاستراتيجية (اطلاق اكاذيب تاريخية ابتغاء التلهي بها من اجل التجهيل المتعمد بالواقع الشنيع).

منذ ايام مرت ذكرى موقعة بدر، وهي موقعة طالما استخدمها المستشرقون الفاقدون لكل نزاهة علمية في الترويج لمقولة: ان الاسلام قام على السيف، وانه دين عنف وعدوان وقتل واستباحة الخ.. والمقولة باطلة موضوعيا بلا ريب. فبدر كانت (دفاعا محضا) عن الوجود الاسلامي.. فقد آثر المسلمون السلام قبل القتال. لكن ابا جهل اصر على المعركة. فاضطر المسلمون للدفاع عن دينهم ووجودهم.. فكم كان عدد القتلى من الطرفين في هذه المعركة (الكبرى): عدد القتلى عشرات!!! لكن المفترين الدوليين يقيمون المناحة من اجل عشرات القتلى في معركة دفاعية عادلة، ولا يذرفون دمعة على 655 الف عراقي قتلوا في حرب ظالمة، وبسبب تداعياتها.. انهم يريدون الهاءنا بـ(اكاذيب تاريخية) عن (واقع دموي).. يمارسونه بفجور وفخر!!

ثالثا: المحور الثالث هو: العبرة السياسية التي ينبغي ان يحفظها ـ عن ظهر قلب ـ كل سياسي مسؤول.. وهذه العبرة هي:

أ ـ التحرر الكامل الناجز من كل تفكير يقول: ان كل ما تراه امريكا صحيح وصائب. فالولايات المتحدة ليست (إلها). وبانتفاء هذا الادعاء فإن دعوى الصواب المطلق هي منطق فرعوني استبدادي يلغي ارادات الاخرين وعقولهم ووجهات نظرهم: «ما أريكم الا ما أرى وما أهديكم الا سبيل الرشاد».. والمثال القريب الصاعق: أن ما جرى في العراق: ليس سبيل رشاد.

ب ـ ان آلامنا عميقة شديدة، ومع ذلك نقول: ليكن العقل والمروءة حاضرين في الباعث والاسلوب والهدف.. ومن المروءة والعقل: بذل العون والنصح للولايات المتحدة حتى لا ترتكب مزيدا من الاخطاء.

ج ـ نكتب هذا المقال ونحن صائمون.. وبوحي من ضمير الصائم نقول للحكام العرب والمسلمين: ابتعدوا عن خطايا الادارة الامريكية.. ابتعدوا.. ابتعدوا. فإنْ هي أحسنت شجِّعوها على ذلك وقاسموها إحسانها، وان هي اساءت فاجتنبوا اساءتها: بتبصر وعزم وشجاعة، فإن هي اصرت على ان تركبوا معها في السفينة الغارقة، فاعلموا انها بذلك تصر على هلاككم: رافعة شعار: لنسقط متحدين او (لنغرق متحدين).