من بريطانيا إلى غيرها: الإشكالية الدستورية في جدل النقاب

TT

الزوبعة الأخيرة حول النقاب، أثارها كشف جاك سترو، زعيم الكتلة البرلمانية للحكومة في مجلس العموم عن حوارات بينه وبين الناخبات المسلمات في دائرته (بلاكبيرن)، شمال غرب انجلترا، طلب اثناءها وبأدب وبدون إصرار ـ منهن التفكير في «النقاب» من زاوية أكثر اتساعا، كعازل عن زملائهن وزميلاتهن في الوطن البريطاني وعائق امام تفاهم الأفراد وجها لوجه.

الزوبعة طرحت قضايا دستورية مثل ضرورة مطالبة الحكومة المنتخبة ديموقراطيا بتنفيذ جانبها من التعاقد الدستوري بينها وبين الناخب، باعتباره مخدومها ويدفع مرتبات وزرائها وموظفيها من ضرائبه. او كمسؤولة في المحافظة على تماسك المجتمع بحماية الثقافة والسلوكات المتفق عليها، وموازنة ذلك بحق الأفراد المقدس في حريتي التعبير والاختيار؛ ومدى توفر الشروط القانونية والظرفية لضمان ان يكون خيار الفرد ـ رجلا كان او امرأة ـ حرا؛ وما إذا كانت دعوة «حرية الاختيار» يافطة تتستر وراءها قوى متسلطة لا تعرف اسسها العقائدية بمبادئ حرية الفرد في الاختيار اصلا.

ولوحظ من التغطية الإعلامية (وأثناء مشاركتي في برامج بث حية في الـ«بي بي سي» للرد على مداخلات المستمعين حول القضية) ان الغالبية العظمى من جوقة ادانة النائب سترو، كانوا من الرجال ـ رغم انها قضية نسائية ـ وليس بينهم مسلمات من دائرة بلاكبيرن. ومهاجمو سترو يسمون انفسهم بموافقة حكومة توني بلير العمالية زعماء المسلمينLeaders of Muslim Community .

اغلبهم من محترفي الاعتراض الصارخ والشوشرة وإدانة أي فنان او اديب او اكاديمي، بعد فتواهم ـ او يفتى لهم ـ بان اجتهاده هو

«هجوم على الاسلام»، يشنون حملة محكمية تفتيشية تهدف لإجهاض الفكرة او الابداع الفني قبل اكتماله. وفي معظم الأحوال لم يطلعوا على محتويات التعبير الذين يريدون مصادرة حق صاحبه في اطلاقه.

ادان «زعماء المسلمين» سترو لطرحه سؤال اعادة التفكير في النقاب في «المنبر الخاطئ»؛ فالمنبر الذي يقبلونه، حسب قولهم، هو المساجد المحلية والمراكز والمعاهد الإسلامية بعيدا عن البرلمان والدائرة الانتخابية.

هذه المقولة مزدوجة التضليل؛ فـ«زعماء المسلمين» هؤلاء غير منتخبين ولا يمثلون إلا انفسهم؛ والمساجد المحلية هي تحت سيطرة ائمة لا يتحدثون لغة البلاد ودائرة معارفهم هي «كتاتيب» ريف باكستان؛ ومعظم ما يسمى بالمراكز الثقافية الإسلامية يخضع للأجندة السياسة للممولين، من خارج بريطانيا، دون رقابة الناخب البريطاني.

اما الحوار الثنائي بين صاحبات النقاب والنائب الذي انتخبنه بمحض ارادتهن لتمثيلهن في البرلمان، فيدور منذ اعوام ـ ولولا نشر سترو الحكاية في الصحيفة المحلية في دائرته لما خرج الأمر للعلن ـ في عيادة الدائرة الانتخابية Constituency surgery كممارسة لتقليد قديم من العمل البرلماني الديموقراطي. فمكتب النائب في دائرته يصبح «عيادة» يستقبل فيها ناخبيه، كأفراد ـ وثلثهم في الدائرة مسلمون، يستمع لشكواهم ويعالج مشاكلهم يوما في الاسبوع، ويطرح، نيابة عنهم اي اسئلة يختارونها في مجلس العموم.

فبالله عليكم، أي المنبرين أكثر شرعية وتمثيلا لمناقشة قضايا تهم الناخب والناخبة: مكتب النائب المنتخب ديموقراطيا لتمثيل المواطنين بمن فيهم المسلمون، أم مراكز يعلم الله من اين تمول؟ ويديرها من لم ينتخبهم أحد؟

وسترو سياسي محنك يعي ان انتقاد الاسلام، هو انتحار سياسي يؤدي لخسارته مقعده، ولذا فطرحه السؤال كان خطوة محسوبة وبموافقة مسلمي دائرته. أما الناخبات اللاتي طلب سترو منهن التفكير في النقاب كحاجز للحوار الكامل «وجها لوجه»، فكشفن وجوههن بارتياح، وقالت بعضهن انهن ظننَّ ان كشف وجوههن قد «يحرج» رجلا كسترو، وكأن الوجه عورة، حسب ما خدعهن به ائمة التضليل.

نظام التمثيل البرلماني المباشر عبر الدوائر Constituency system هو تعاقد قانوني بين الحكومة والناخبين كأفراد. ولا يشمل هذا التعاقد اتفاقا بين الحكومة وكتل عرقية او مذهبية. وبالعكس فنظام التمثيل النسبي proportional representation كما هو الحال في اسرائيل او العراق، يعاني مجاملات مذهبية وقوانين تفصل على مزاج الكتل العقائدية فتعطل عمل الحكومة وتعرقل تنفيذ الوعود الانتخابية.

ولهذا فإن سترو، باستجابته لرغبات الناخبات، كأفراد، تجاوز الوسطاء والسماسرة غير المنتخبين كالمجلس البريطاني للمسلمين، او البرلمان الاسلامي وغيره من الأجسام التي تفتقر الى اي شرعية دستورية حيث لا تمثل احدا مسلما او غير مسلم.

وارجو ان يحتذي جميع النواب حذو سترو، ويتجاهلوا هذه المنظمات والمجالس والتجمعات «الاسلامية» ـ خاصة الممولة من الخارج لغياب شرعيتها الدستورية، ويتوجهوا مباشرة الى مئات الألف من الاغلبية الصامتة العاقلة من مسلمي بريطانيا لمناقشتهم، في عيادات الدوائر، كأفراد، كما فعل سترو، كي يتيحوا لهم التعبير بحرية بعيدا عن تسلط وزعيق اقلية غير منتخبة، كالغوغائيين الذين يسعون الى صدام بين المسلمين وغيرهم، او مرتزقة يبررون التمويل من خارج البلاد بحجة دعم مراكز ثقافية اسلامية وهمية.

وعلى حكومة بلير ان تكف عن التعامل مع منظمات لا تمثل احدا، وتعوض المواطن عن انتهاكها لشروط التعاقد الانتخابي، بإزالتها الحواجز العرقية وتحقيق الانسجام الاجتماعي ابتداء بإلزام التلاميذ والتلميذات بـ«اليونيفورم» المدرسي بلا تمييز او استثناء ـ وهو مطلب معظم اولياء الأمور من جميع الأديان لإعادة الانضباط ـ، كما كان الحال قبل ربع قرن حيث ارْتَدَتْ التلميذات المسلمات «اليونيفورم» ولم نسمع بحجاب او نقاب او جلباب او هباب؛ وهن اليوم امهات صالحات ومهنيات وسيدات اعمال ناجحات وبعضهن في مجلس اللوردات.

وأنا اؤيد حرية المرأة، مسلمة او غير مسلمة، في ارتداء ما يحلو لها، بشرط ان تتوفر لها بالفعل كل شروط هذه الحرية، وأهمها الاختيار بين بدائل متاحة عند بلوغ سن الرشد.

فهل تدجين بنات دون الخامسة وتذويب شخصيتهن وراء البرقع الطالباني او النقاب، يوفر لهن حرية الاختيار عند بلوغ سن الرشد، هذا لو بلغنها قبل اجبارهن على الزواج لأسباب لا علاقة لها باختيارهن الحر؟

فأغلب الملوحين بـ«حق المرأة في ارتداء النقاب» من اصوليين سلفيين يرفضون اصلا مبدأ حرية الفرد في الاختيار ـ بدليل اهدارهم الفوري لدم من يفتون بتكفيره لأنه اجتهد في التفسير المباشر للنص القرآني بما يخالف آيديولوجيتهم؛ رغم رفض الإسلام لكهنوت الوساطة بين الله والفرد، رجلا كان او امرأة. فمن حق الفرد الاجتهاد لتفسير الآيات القرآنية ـ وبالمناسبة ليس في القرآن ما يلزم المرأة بالتحجب ـ دون وساطة او فتاوى من المحلاوي والقرضاوي أو غيرهما.

والأقلية العالية الصوت تتهم الغرب بعدم فهم «ثقافة المسلمين»، ولكن هل حاولوا هم فهم الثقافة البريطانية؟

فزوجتي مثلا لا تحلم بالتنزه بالبكيني في حدائق اسلام آباد. وبالمقابل، فليس من الأدب او اللياقة محادثة شخص من وراء نظارات شمس في الثقافة البريطانية، فما بالك بإخفاء الوجه كله بالنقاب؟ ولماذا لا يحاول من جاء لبريطانيا باختياره فهم اساسيات ثقافية ثابتة في البلاد كحرية التعبير والفكر والاجتهاد، والمساواة بين الجنسين؛ بدلا من احتقاره ثقافة البلاد بحجة حقوق أقلية داخل اقلية؟