باريس تغلي: كتاب أركون.. والجدل حول الاسلام

TT

يمكن القول بان الحدث الثقافي الأبرز على الصعيد الباريسي كان صدور كتاب ضخم عن الإسلام باشراف محمد اركون قبل بضعة أيام. وهو كتاب يشبه الموسوعة في الواقع من حيث الضخامة لانه يتجاوز الألف ومائتي صفحة من القطع الكبير. وقد ساهم فيه ما لا يقل عن خمسة وسبعين باحثاً او مختصاً بالدراسات العربية والاسلامية، وقد اتخذ العنوان التالي: «تاريخ الاسلام والمسلمين في فرنسا منذ العصور الوسطى وحتى اليوم» وبالتالي فهو يقدم للقارئ النظرة التي ألقاها الفرنسيون على الاسلام على مدار ألف وثلاثمائة سنة: أي منذ معركة بوايتيه الشهيرة عام 732 وحتى عام 2006. ولحسن الحظ فان الكتاب صدر الآن: اي في اللحظة التي تندلع فيها المناقشات الصاخبة في فرنسا وعموم اوروبا عن الاسلام. فلعله يساهم في تبديد الأوهام وتوضيح الاشكاليات وتهدئة النفوس ولو قليلاً.. ومعلوم ان الفكر العلمي الرصين الجاد هو وحده القادر على ذلك.

فالبعض اصبح يخشى من حصول حرب دينية بين الإسلام والمسيحية أو بين الاسلام والغرب العلماني بعد تصريحات البابا، وقضية الفيلسوف روبير ريه تكير التي لا تزال تتفاعل حتى الآن، أو قضية منع مسرحية في المانيا بغية عدم جرح مشاعر المسلمين، هذا دون ان نتحدث عن الصور الكاريكاتورية في الدانمارك، الخ..

في مثل هذا الجو المشحون بالانفعالات والانفعالات المضادة يجيء كتاب اركون وجاك لوغوف وعشرات الباحثين الآخرين لكي يضع النقاط على الحروف فيما يخص القضايا الاساسية.

وقد صرح المفكر الجزائري الكبير «لوكالة الصحافة الفرنسية بعد صدور الكتاب قائلاً: انه عبارة عن مشروع متكامل يهدف ليس فقط إلى التذكير بالعلاقات السياسية والتجارية والعسكرية والثقافية التي حصلت بين فرنسا وعالم الاسلام، وإنما ايضاً وبشكل خاص الى دراسة نظرة ما. المقصود النظرة التي شكلتها فرنسا عن الاسلام والمسلمين على مدار العصور والتحولات التي طرأت عليها. وبالتالي فهو تاريخ سيكولوجي (اي نفساني) وثقافي لمجمل تلك العلاقات. بهذا المعنى فإن الكتاب يدخل فيما تدعوه مدرسة الحوليات الفرنسية بتاريخ العقليات المختلف عن تاريخ الماديات والمكمل له. كما ان الكتاب يهدف إلى تحويل المسلم من عدو في المطلق أو من آخر مختلف كلياً في غيريته إلى مواطن وانسان مثله في ذلك مثل أي انسان آخر.. وهذا ما قاله جاك لوغوف ايضاً بعد ان أضاف: ان تاريخ العلاقات بين الفرنسيين والمسلمين مطبوع قبل كل شيء بالتناقض الأساسي التالي: على الرغم من عداء الفرنسيين الحاد غالباً للإسلام والمسلمين إلا ان فرنسا استعارت منذ العصور الوسطى وحتى اليوم أشياء ثقافية وانسانية عديدة عن الاسلام وحضارته. وهي أشياء أغنت الحياة الاجتماعية والثقافية الفرنسية ولا تزال تغنيها.

ان هذا الكلام إذ يصدر عن أكبر مؤرخ فرنسي معاصر يتخذ أهميته القصوى في هذه الظروف الهائجة والمضطربة بالذات. وقد آن الأوان لكي ينزل كبار المفكرين الى الساحة لتوضيح الأشياء في عمقها التاريخي وللكشف عن طريق الخلاص. وهو طريق لا يزال طويلاً أمامنا... وذلك لأن الأحكام السلبية المسبقة والراسخة في العقلية الجماعية لكلتا الجهتين لا تزال ضخمة وهائلة ولا يمكن تبديدها بين عشية وضحاها. فالتصورات التي يحملها العربي أو المسلم عن الغرب هي ايضاً خاطئة وعدائية تماماً مثلما ان نظرة الفرنسي للإسلام والعرب عدائية كما قال ذلك بكل صراحة جاك لوغوف.

والواقع ان إرنست رينان يتحمل مسؤولية كبيرة في هذا الخصوص عندما أشاع الفكرة التالية: وهي ان الاسلام هو التعصب الأعمى بعينه لأنه مغلق على كل بحث فلسفي أو انفتاح علمي وعقلاني.. وهكذا أسقط عصور الانحطاط على العصور الذهبية للحضارة العربية الاسلامية وشطب على كل تاريخ الاسلام بجرة قلم واحدة!. وقد آن الأوان للخروج من هذه التعميمات الظالمة. ولكن هل يمكن ان نخرج منها ما دام الوضع العربي الاسلامي متخلفاً وتتحكم به التيارات الظلامية الأكثر عداءً لنور الحضارة الحديثة؟ أليست تصريحات المتطرفين هي التي تعطي المصداقية الكاملة لكلام ارنست رينان؟ هكذا نجد اننا قد عدنا الى منطقة الصفر..

مهما يكن من أمر فإن محمد أركون ذهب الى صلب الموضوع عندما قال في تصريحاته الصحفية أو في المقدمة العامة للكتاب ما معناه: وحدها أوروبا المسيحية استطاعت ان تمسك بزمام المبادرة التاريخية وتتفاوض مع الحداثة وتتواصل إلى المصالحة بين الدين والعقل. هذا في حين ان عالم الاسلام ظل بمنأى عن هذه الحركة التاريخية أو الطفرة العلمية والفلسفية الضخمة التي صاغت وجه العصور الحديثة. والمشكلة الكبرى هي ان الاسلام مطالب الآن بأن يواجه تحديات العولمة الكونية في حين انه لم يتعرف بعد على المكتسبات الهائلة للحداثة الكلاسيكية! بمعنى آخر فانه لم يهضم بعد الفتوحات اللاهوتية والعلمية والفلسفية والسياسية لعصر التنوير وما بعده. فكيف بامكانه ان يواجه العولمة وكل ما سبقها دفعة واحدة؟ كيف يمكنه ان يهضم اللاحق اذا لم يكن قد هضم السابق؟ ومع ذلك فهذا ما يطلبه الغرب منه حاليا وبسرعة. ولكن الخبراء ببواطن الامور يعرفون ان ذلك أمر مستحيل في المدى المنظور. فهناك هوة سحيقة تفصل بين عالم الاسلام وعالم الغرب ولا يستطيع احد سدها في الوقت الحاضر، ولن تسد أصلا قبل عشرات السنين.

وهذا الفراغ العميق او الهوة السحيقة بين الطرف المتقدم والطرف المتأخر هي التي تفسر لنا ـ جزئيا على الاقل ـ سبب التفجيرات الاصولية والصراع المدمر الدائر حاليا. وبالتالي فلسنا بحاجة الى نظرية صموئيل هنتنغتون عن صدام الحضارات لكي نفهم ما يجري لأنه لا توجد اصلا حضارة في الطرف الآخر لكي يحصل صدام حضارات. وانما يوجد فراغ مرعب بين عالم متقدم حل مشاكله وصفى حساباته مع نفسه، وعالم متخلف لا يزال يتخبط في مشاكله التي لا تحصى ولا تعد..

ما المقصود بهذه الهوة السحيقة او الفراغ المخيف؟ المقصود هو ان العالم الاوروبي بعد الثورة الفرنسية تحرر من وصاية رجال الدين وفقه القرون الوسطى، ولم يعد يخلط بين قانون الله وقوانين البشر. لم يعد يخلط بين المقدس والدنيوي، او بين الدين والدنيا، او بين العبادات والمعاملات اذا ما استعرنا مصطلحا اسلاميا كلاسيكيا. واما عالم الاسلام فلا يزال يتخبط في هذه المسائل ويخلط بين الشؤون الالهية والشؤون البشرية. يضاف الى ذلك ان العالم الاسلامي لا يزال سجين يقينياته القروسطية التي فككتها الحداثة في الغرب فيما يخص المسيحية على مدار القرون الثلاثة الماضية. وبالتالي فكيف يمكن ان يلتقي عالمان تفصل بينهما كل هذه الهوة السحيقة؟ وبما ان العالم الاسلامي لا يستطيع استدراك ما فات وسدّ الهوة في فترة قصيرة فان الصراع بين الطرفين سوف يستمر لأنه يخص القيم الاساسية للحياة البشرية.

هذا باختصار شديد ما فهمته من كلام اركون وربما كنت قد تجاوزت الحدود في تأويله وشرحه. وعلى اية حال فمسؤولية هذا الكلام تقع على عاتقي وحدي لا عاتقه. يضاف الى ذلك انه لا يمكن بمقالة صحافية واحدة ان تلم بكل جوانب هذا الكتاب الموسوعي الضخم الذي جاء في وقته. فهو يحتاج الى عشرات المقالات..