العراق: عن الذين يدفعون الثمن مرتين

TT

إذا أردت أن تعرف مدى قوة سلسلة فبالحلقة الأضعف منها، في عراق ما بعد صدام ومع الفوضى الأمنية، خسر كثيرون أرواحهم ودماءهم، لكن هناك من عانى بصورة مزدوجة، ليس فقط كمواطن عراقي، ولكن أيضاً لانتمائه لأقلية عددية غير ممثلة بين كبار المتنافسين على الحكم، أقلية يسوغ لمهاجمتها على الهوية وأحيانا باسم الدين، إنهم الحلقة الأضعف والأكثر عرضة للخطر، المهمشون على أسس النوع أو القومية أو الدين أو المذهب، وإذا أفلحت حكومة وطنية ما في اختبار الأمن، فسيكون حماية أقليات الأقليات هو المؤشر الأكثر صدقية على أن عراقاً مستقراً يولد بالفعل.

في اليوم الأول لوصولي بغداد أغسطس 2003 وبعد أن انزاحت الشمس قليلاً، خرجنا نهضم الطعام ونبحث يائسين عن فنجان قهوة!، لفت نظري محله بلافتة مكتوب عليها «يوجد شُرب قهوة»، اكتشاف مدهش، يعرف العراقيون استكانات الشاي المعبق بالعطور مضيفين له الهيل، لكن القهوة هنا ولسوء حظي أقل انتشاراً.

شربت القهوة لديه، مارديكيان مسيحي أرمني الأصل، كلما فرغ مخزون البن نذهب له، نحتسي القهوة حتى يفرغ من إعداد البن لنا، على حائط محله الصغير صور من هاجر من العائلة أكثر ممن بقي، قال إنه سيرحل أيضاً نهاية العام، إلى بريفان التي لم يرها قط فهو لم يعرف وطنا غير العراق، الذي وصله جده قبل قرن تقريباً، وأن المسيحيين عامةً بالوسط والجنوب مستهدفون بالقتل والنساء منهن يجبرن على الحجاب قسراً وإلا قتلن أيضاً، ضحك من قولنا المفرط في مثاليته وقتها: «إنها مسألة وقت وسيعود العراق آمنا»، في 2004 تفجيرات تطال كنائس عدة ببغداد والموصل فأسأل: هل غادر مارديكيان العراق؟ ليس بعد، كلما جدت موجة العنف الأعمى أعاود نفس السؤال، كما اختطف كاهن أو استهدفت كنيسة، بقاؤه كان مؤشراً الى أن بعض مسيحيي العراق يعتبرون العنف الموجه ضدهم من الجماعات المتطرفة ـ سنية و شيعية ـ أمراً عارضاً، لكن العام تلا العام، ووصلت أعداد المسيحيين الفارين صوب سوريا وتركيا لآلاف .. يراهم الأصوليون كفاراً وجب قتلهم!

كان الأكراد الفيلية وهم شيعة من أول الفئات التي اضطهدت في عهد صدام، النائب بالسبعينات، هجروا بالآلاف كونهم «تبعية صفوية»، وعلى أبنائهم تم تجريب مواد كيماوية استخدمت لاحقا ضد الكثيرين، ولكن حتى الآن لم يعوضوا، لم تعد لهم منازلهم التي صودرت (وبالمقابل جمدت مثلا أموال اليهود الذين تركوا البلاد في الخمسينات)، في الأعوام الثلاثة الأخيرة أصبح عادياً أن تقرأ منشوراً يهدد فيه الأسر الفيلية بترك منازلهم والرحيل وإلا واجهوا الموت، يشعر الفيلية بأنهم ضعفاء، فلا العراق الجديد أعطاهم تعويضا ماديا يعزز وجودهم ويزيح عنهم بعضا من ذكرى اضطهاد طال، ولا معاناتهم مدرجة كبند محوري على أجندة أي من الأحزاب الكبرى التي تقتسم السلطة بالبلاد، يقول بعضهم «نحن أكراد عند الحاجة فقط» عندما يصبح لأصواتهم الانتخابية المتفرقة بين بغداد وغيرها وزناً، كما أنهم منقطعون جغرافياً عن بقية الأكراد في شمال البلاد، يشعرون أنهم بلا سند حقيقي، فحسب ما تفرضه قواعد اللعبة الآن يأتي السند من مال أو ميلشيات أو دعم خارجي، بعض المهجرين يئسوا من إنصافهم فعادوا مرة أخرى لمنفاهم الإجباري بإيران أو دول المهجر بالأخص السويد والدنمرك، جيوب فيلية تواصل حياتها باعتبار أن ما يسري على الجميع سيصيبهم شرا أو خيرا، لكن عصابات القتل تجد فيهم جاذبية خاصة، يراهم الأصوليون السنة شيعة، ويراهم الفاشيون كرداً وفرساً.

في مايو 2003 دخل رجال السياسة المتسربلون بالدين جامعة البصرة التي افتتحت لتوها بعد شهرين من الإغلاق، وعندما مر السيد من البصرة للنجف كان يجب تطهير المسار جيداً، وجد العديد من المسيحيين مقتولين بحجة اتجارهم بالخمور، وأصبح الحجاب فرضا على كل امرأة حتى غيرالمسلمات، في اليوم نفسه كان عراقيون من «الصابئة المندائيين» المقيمين بهولندا يؤبنون شهداء القصف الأمريكي بينما كان ذووهم بالداخل يتعرضون لعنف يومي، في الناصرية يدق الصائغ الصابئي الديانة على خاتم فضي بمتجره، يرفع رغما عنه صورة للحسين، يقول إنه يحترم مشاعر الآخرين لكن المتعصبين يفرضون عليه ما هو أكثر، برهان الصابئي واحد من طائفة دينية غير تبشيرية لكن أبناءها يتعرضون للأسلمة القهرية ويوصمون بالكفر (رغم أنهم إسلامياً في حكم أهل الكتاب!) تتعرض شقيقتا برهان لمضايقات عدة، إذا تتراجع مكتسبات المرأة عامةً في العراق المتجه سريعاً لمحافظة مجتمعية وأصولية دينية تحميها جماعات سياسية، واحدة منهما موظفة تقول «نادراً ما تحدثني زميلة في الدائرة التي أعمل بها،.. لم يكن هناك كل هذه الحساسية من قبل... أخشى أن يغلقوا المندى الأخير حيث نقوم بالصلاة»، في نهاية السبعينات ستغادر أسرة بهاء العراق إلى سوريا لأسباب سياسية، عائلة بهاء الصابئية أعطت للعراق علماء وشهداء في فترات النضال ضد الاحتلال ثم ضد الديكتاتورية، واصلت العائلة تغريبة الرحيل، وعندما فكر بهاء مؤخراً في العودة متصوراً أن تخصصه العلمي سيفيد تنمية العراق اصطدم بأنه ملفوظ من قبل كثيرين، فجده الأكبر قبل ألف عام كان يهتدي بالنجم، وهذا أيضاً سبب كاف الآن لقتله، إنهم لا يرحبون بطائفته هنا حتى لو كانوا من أقدم الشعوب التي سكنت بلاد الرافدين.

الانفراد بالضحايا الاضعف لم يشمل فقط الصابئة المندائيين أو بالاحرى من بقي منهم، ولا مسيحيي بغداد والجنوب بانقطاعهم عن مسيحيي الشمال (آشوريين وكلدان) كأقلية بين مجموع عربي مسلم غالبه شيعي، ولا الفيلية الذين سقطوا من حسابات الكبار. تطلع إلى حلبجة أقصى الشمال ستجد أسراً تدين بالكاكائية عانت من عنف الجماعات الأصولية التي تراجع وجودها العسكري مؤخراً، كما سجل تمييز مجتمعي ضدهم، يطلب منهم البعض تصحيح هويتهم الدينية والعودة للإسلام ـ تماما كما كان صدام يطالب الاكراد والتركمان بتصحيح هوياتهم القومية بالأخص في كركوك! ورغم أن التفتح النسبي بالمجتمع الكردستاني يسمح بقبول الآشوريين كمسيحيين بينهم خاصة أنهم من اقدم سكنة الإقليم لكن الأمر ليس كذلك عندما يتعلق بالكعكة السياسية، كما يعاني الأكراد الأيزيديون أيضا من تمييز وأحياناً تقليل من شأنهم على حس هويتهم الدينية. معظم الحلقات الضعيفة بالمجتمع العراقي تدفع الآن ثمن انصراف الأقليات الأكبر عن همومهم، متناسين حقوق الأصغر أو الذين بالكاد تستطيع تحديد أعداد تقريبية لهم، لكن بدونهم لا عراق، إذ كيف يمكن أن تتخيل العراق مثلاً دون صابئة ومسيحيين وفيلية ؟

صحيح أنه يؤرَّخ للحروب وسقوط النظم بارتفاع وانسحاق طبقات وفئات، وعندما يتعلق الأمر بدولة يزيد تعدادها عن 20 مليون مثلا فمن الصعب إعلامياً أن تتوقف كثيراً عند بضعة آلاف، هؤلاء في هوس اليمين الديني الصاعد حالياً يصبحون كفارا وزناديق وعبدة نجوم مثلما يصبح قتلهم جهاداً، والحلقات الأضعف يزداد ضعفها وتسحق تماماً، واختصار معاناة هؤلاء ليس بالأمر اليسير وليس دالة فقط في معادلة عسكرية؛ فالمهمة الأكبر مجتمعية ودينية وثقافية، وتتطلب أيضاً استرجاعا لعراق قديم كان فيه تسامح وتواصل مع المختلفين دينا وقومية عن السواد الأعم.

لا نعلم كم يعطي ساسة العراق الجديد وقتاً للتفكير في حقوق وحماية أمثال هؤلاء، رجاءً لا تخبرونا أنكم نجحتم في تشكيل حكومة، وأنكم توقفتم عن مشاحناتكم، فهناك معايير أخرى منسية، طمنونا: هل غادر مارديكيان أيضاً العراق؟

*كاتبة مصرية