النهر الثالث

TT

في الخمسينات قررت الناصرية الاطباق على الشيوعيين. وعندما قامت حركة الشواف في الموصل، خرج شيخ ومؤسس السعادة العربية احمد سعيد يقول: «اقتلوهم حيث وجدتموهم». ولم يتخط احد هذه الهمجية اللفظية سوى شيوعيي العراق. فلم تكن لديهم اذاعة يدعون فيها الى القتل، ولكن كانت لديهم حبال جاهزة يسحلون بها كل من رأوه في الشوارع وهم يهتفون «ماكو زعيم الا كريم». اما لماذا «ماكو زعيم الا كريم» فلأن العقل العربي، خصوصاً الفرع الشيوعي منه، لم يكن قد اخترع بعد ذلك الهتاف الرخيم «بالروح، بالدم».

11 قتيلا في هجوم على محطة تلفزيون ليس فيها سوى مذيعين ومذيعات ومحررين. و40 جثة «مجهولة الهوية» في امكنة اخرى. وما هو الا يوم آخر من يوميات بغداد. فماذا تسمي ذلك؟ انا، شخصيا، اسميه مقاومة. وسوف تظل المقاومة نابضة في العروق الوطنية الملتهبة حتى لا يبقى من يهتف لها. دعوني اكرر من دون ان تسأموا من ذلك. المسؤول عن مذابح بغداد، المجهولة المعلومة، هو العقل العربي الذي يرفض استنكارها. وهو العقل العربي الذي يطرب لها ويشارك في احصاء الجثث ويتفرج على النعوش الخشبية الرخيصة التي تعطى لاهل العراق يدفنون فيها قتلاهم. لماذا لا نسمع رأي الازهر وكافة المرجعيات الدينية في العالم العربي في مهرجان القتل المجاني القائم في العراق؟

اين هي مجموعات ونقابات وجمعيات الكتاب والادباء والصحافيين التي تهب لاستنكار اعتقال شاعر او «مثقف» في الاناضول، ثم تذهب الى النوم عندما يقتل العراقيون بالآلاف تحت شمس العرب. ما هذا التقبل المريب للنهر الثالث في بلاد ما بين النهرين: نهر الدماء وسهول الجثث.

ما هذا السكوت العربي الرسمي والديني والفكري والحزبي وطبعاً الشعبي؟ فداء مَن يقتل بالرصاص مذيعون ومذيعات؟ وفداء مَن ترمى الارواح «المجهولة» على قارعة الطرق؟ وكيف يهون على امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، ان يكون هذا هو حال ومآل بلد عربي في هذا الموقع وهذا الحجم؟ ام اننا قوم متخلفون لم نبلغ بعد ان العراق لم يعد بلداً عربياً، فلندعه وشأنه وجثثه. ولنتركه يشكو، علناً، من قلة المقابر وكثرة الطلب؟ أليس ذلك اقصى حالات الانحطاط الانساني: ان يترك بلد يعلن افلاسه في المقابر، كما روت الزميلة «الحياة»؟ ألا يستحق موتى العراق كلمة صغيرة او دقيقة صمت او لحظة حياء او ثانية تأمل عربي، او بالاحرى تأمل عربي ـ اقليمي مشترك، بلغة هذه الايام؟