بشار ليس السادات وأولمرت ليس شارون

TT

لا حرب بلا مصر، لكن لا سلام بلا سورية. توقعت اسرائيل نهاية للحروب مع العرب، بعدما أخرج السادات مصر من دائرة المواجهة. اسرائيل تكتشف بعد حروبها غير المحسومة مع لبنان أنها أمام خيارين: حرب مع سورية أو سلام معها. الهدف واحد في كلا الخيارين، وهو قطع علاقة سورية مع إيران وحزب الله، ومع «الجهاديين» الفلسطينيين الذين تؤويهم في دمشق.

خيار الحرب مع سورية شديد الوطأة على اسرائيل. نعم، هي أقوى من سورية بمراحل. لكن الحرب قد تحمل مفاجآت غير سارة صاروخية وغير صاروخية، كتلك التي أعدها «حزب الله». هذا يعني أن اسرائيل غير قادرة على الحسم أيضا مع سورية. إذا كانت قادرة، فحرب واسعة سوف تتمخض عن احتمال مخيف: التغيير في دمشق سوف يلهب المنطقة. «القاعديون والجهاديون» قادمون حتما. إذا سقط النظام في الحرب، سيحولون سورية ولبنان وربما الأردن، الى عراق آخر ملتهب يشعل جبهات المواجهة مع اسرائيل.

اذا كانت الحرب باهظة الثمن وغير مضمونة النتائج، فلماذا لا تجرب اسرائيل الخيار الآخر؟ صنع السلام مع سورية؟ الواقع أن معظم قادة المؤسسة العسكرية/المخابراتية من متقاعدين وعاملين، يلحون علنا وضمنا على استئناف المفاوضات مع سورية التي انقطعت في عام 2000 بعد وفاة الأسد وسقوط إحد باراك رئيس الحكومة المفاوض آنذاك. تدعم هؤلاء أيضا تيارات وسطية ويسارية وشخصيات مدنية بارزة، من أمثال بيريس وتزيفي ليفني وسلفان شالوم وعمير بيرتز.

المشكلة أن حكومة إحد أولمرت آيلة للسقوط. أولمرت أحد الصقور. هو المخطط الحقيقي لتهويد القدس وإحاطتها بأسوار الاستيطان منذ أن كان رئيسا لبلديتها. غير أن أولمرت ليس بشارون. بعد حرب لبنان، أصابه «النصر الإلهي» بالضعف والهزال، بحيث لا يجرؤ على وضع بصمته على اتفاق سلام مع سورية، لا سيما بعد صعود شعبية اليمين الاسرائيلي المعارض للانسحاب من الجولان.

لعل الرئيس بشار أدرك ضعف موقف أولمرت. راح يحرجه بسيل متدفق من الكلام عن السلام، والاستعداد للتفاوض، بل وللعيش جنبا الى جنب مع اسرائيل.

مشكلتي الشخصية مع الرئيس بشار أنه طويل جدا. لا أستطيع أن أصل الى رأسه لأعرف ما يدور فيه. أعرف أن المزاجية السياسية والشعبية السورية قد تغيرت كثيرا. لم يعد هناك رفض مطلق وقاطع لاسرائيل، بحيث راح مثل الأسد الأب يتحدث في اخريات حياته عن «سلام الشجعان». لكن ماذا يقصد الأسد الابن وهو يقبل بالتعايش السلمي مع «الجارة» اسرائيل؟

هل هو دافع الخوف من هجوم اسرائيلي؟ ربما، لأن سورية باتت وحدها، حليفتها ايران بعيدة عمليا عنها. أم هي الرغبة في اتقاء مزيد من الغضب الأميركي، وتبديد الصورة السلبية لسورية في عالم بات أكثر إدانة لاسرائيل في عملياتها الوحشية ضد اللبنانيين والفلسطينيين؟ هل بشار قادر على تحريك بوش الابن، لإنعاش عملية السلام، كما فعل سلفاه أبوه وكلينتون؟

الى الآن، الحديث عن السلام لم يخرج من دائرة المناورة الكلامية. كوندوليزا السائحة في المنطقة لم تزر دمشق. دعوة بشار للسلام قوبلت في واشنطن بالشك والفتور. زعماء اسرائيل في عجزهم عن صنع الحرب والسلم سارعوا الى «تعجيز» بشار. منذ عام 2004 والرئيس موشي كاتساف يدعو بشار الى زيارة القدس. كاتساف عمليا رئيس رمزي مشغول بمعانقة سكرتيراته عن مصافحة ضيوفه وزواره! أما بيريس فهو يدعو بشار الى الهبوط بمظلة على الكنيست، كما فعل «الفدائي» السادات.

أود أن أقول هنا أن بشار ليس السادات. دفع السادات حياته ثمنا للزيارة المشؤومة «لاستجداء» الانسحاب والسلام. الإعلام السوري قال ان السلام لا يتحقق من خلال «زيارات بروتوكولية» ومناورات كلامية. السبب، في اعتقادي، أكثر عمقا: السادات اعتبر الصراع مع اسرائيل سياسيا. يمكن مصالحة اسرائيل اليوم ومخاصمتها غدا. سورية وعرب المشرق يعتبرون الصراع مع اسرائيل صراعا وطنيا وقوميا ومصيريا. انه صراع على البقاء، على الأرض، على الهوية، على تاريخ عريق في رد الغزاة والمستوطنين منذ الحروب الصليبية والمغولية والاستعمارية العثمانية والاوروبية.

إذا كان بشار والسوريون باتوا حقا يؤمنون بإمكانية التعايش مع اسرائيل، فهم يتركون الحل للتاريخ. العرب باتوا يعتقدون ان التاريخ سيحل مشكلة اسرائيل، اذا كان الحاضر العربي عاجزا. وللتاريخ سوابق غير أبدية. فقد حل كل أشكال الإقامة الغربية التي حاولت الاحتلال والاستيطان وطمس عروبة المنطقة.

هل عملية التفاوض بين سورية واسرائيل ممكنة عمليا وإجرائيا عندما تسمح السياسة؟

يحسن بي هنا أن أعود الى المفاوضات السابقة، وأقول إنها انجزت تسويات تفصيلية كثيرة، بحيث يصبح من السهل التوصل بسرعة الى اتفاق نهائي حول الحدود والمياه والأمن والتطبيع «الرسمي».

في المفاوضات، تداخلت مشكلة الحدود مع مشكلة المياه. السبب هو أن اتفاق سايكس/بيكو الاستعماري (1916) لتمزيق سورية الطبيعية (ولاية الشام) حرص على إبقاء موارد المياه (نهر الأردن وبحيرتا الحولة وطبريا) ضمن الحدود الفلسطينية، لتكون خزان المياه اللازمة للدولة اليهودية المنوي إنشاؤها. في حرب 1948 وصلت القوات السورية الى الشواطئ الشرقية لطبريا والحولة. لكن الأنظمة العسكرية الانقلابية عادت وسحبت هذه القوات من اطراف الجليل الأعلى، ورضيت في مفاوضات الهدنة بإنشاء مناطق مجردة واسعة ما لبثت أن احتلتها اسرائيل وطردت سكانها، وجففت الحولة. وفي حرب 1967 الكارثية، فقد السوريون الشاطئ الشرقي لطبريا.

في التفاوض مع رابين (93/1995) وباراك (2000)، أصر السوريون على العودة الى شاطئ طبريا والاستفادة من مياهها ولا سيما ان المياه السورية هي التي تغذيها (700 مليون متر مكعب في السنة)، وتشكل ثلث استهلاك اسرائيل من المياه. رفض الاسرائيليون. اقترحوا بدلا من ذلك، إبقاء منطقة الحمة ضمن الحدود السورية. اعتقد أن بالإمكان تجاوز هذه المشكلة بتنفيذ مشاريع مائية مشتركة للدول المتشاطئة (سورية. الاردن. اسرائيل. لبنان) وفق القوانين الدولية، بعد حلول السلام.

في القضيتين الأمنية والتطبيعية، أصر رابين وباراك على بقاء الاسرائيليين في محطة التنصت والانذار المبكر في أعالي جبل الشيخ (نحو ثلاثة آلاف متر ارتفاعا). لكن الأسد رفض إبقاء جندي اسرائيلي واحد، واقترح خبراء دوليين أو حتى اميركيين. في توزيع القوات، قبل الاسرائيليون باقتراح الأسد بإنشاء ترتيبات «متساوية ومتبادلة» على طرفي الحدود. بقيت مشكلة محطة التنصت قائمة. لم يقبل الاسرائيليون بوجهة نظر الأسد، في إمكانية حلول أقمار التجسس محل المحطات الأرضية والجبلية.

في التطبيع، قبل الأسد بوجود سفارة اسرائيلية في دمشق. لكن رفض فرض التطبيع على الشعب، كما حدث في الأردن بعد صلح وادي عربا. ثمة معلومات لا أستطيع أن أؤكدها تقول إن الأسد وافق على فتح مفاوضات بين لبنان واسرائيل فور التوصل الى اتفاق مع سورية، لعقد اتفاق صلح وسلام مماثل خلال تسعة شهور. لكن طلبَ تحقيق الانسحاب الاسرائيلي من الجولان خلال ستة شهور كافية لتقويض المستوطنات. أما رابين ثم باراك فقد طالبا بانسحاب على مراحل يستغرق خمس سنوات، وتكون مرتبطة بتقدم التطبيع.

هل الحرب المفاجئة محتملة؟

لا أعتقد لأن القوات خلف المنطقة المجردة دفاعية، إلا إذا عُززت في زمن التوتر. الآن وخلف المنطقة المجردة، وفي عمق يتراوح بين ثمانية كيلومترات وعشرين كيلومترا، ترابط قوات متبادلة بأعداد متساوية: ستة آلاف جندي. 75 دبابة. 36 مدفعا في الخط الدفاعي الأول. 450 دبابة. 162 مدفعا في الخط الثاني.

يبقى السوريون في حسابي بحاجة الى أكثر من منظومة دفاع جوي لمواجهة التفوق الجوي الاسرائيلي. فقد شاهدتُ كيف تمكن الاسرائيليون خلال أيام قليلة من تدمير منظومة الدفاع الجوي في حرب 1973. بعدها راح الطيران الاسرائيلي يغير على دمشق موقعا خسائر فادحة في المدنيين، بالاضافة الى تدمير جانب من البنى الصناعية والأساسية في أنحاء مختلفة من البلاد.

سؤال آخر ما زال معلقا في الذهن والحساب:

هل يستطيع نظام بشار تجنب «ويلات السلام»؟! أول هذه الويلات حتمية الديمقراطية والانفتاح، في المفاوضات الأصعب... مع السوريين أنفسهم.