أما السياسة.. فلا أمل.. فماذا عن الناس!

TT

يقول الفيلسوف الانجليزي برتراند راسل (ولد 1872) إن: «الناس يخافون الفكر أكثر من خوفهم من اي شيء في العالم. ذلك ان الفكر يتطلع الى هوة الجحيم من دون ان يرتعد او يخاف».

هذا الكلام صحيح. صحيح جدا. وقد طاف بخاطري اثناء نقاش مع احد المثقفين العراقيين حول الازمة العراقية، هل قلت الازمة؟! بل الحريق العراقي الكبير، وتفتت الدولة، وسيلان الطوائف والعشائر على جلد العراق الواحد.

فلو كان الفكر السائد في العراق فكرا نقديا لا يخاف من موانع تأتيه من هنا او هناك، وكل شيء امامه متاح له تحليلا وتقليبا واعادة قراءة، حتى ولو كانت قاسية على الوعي السائد، لما استطاع لوردات السياسة السباحة في بحر الجهل العراقي. هل استعجل العراقيون بالدخول في التجربة الديموقراطية؟ هل كانوا بحاجة لبعض الوقت، حتى يتعافوا تماما، ويعبروا لحظة الانتقال من نمط حكم استبدادي وحشي، ليس بسبب حكم البعث فقط، حتى ما قبل البعث، انها اول تجربة في الديموقراطية يمر بها العراق في تاريخه الواعي. فماذا كانت النتيجة؟!

انقضاض الحس الطائفي والعرقي على الجسد العراقي الواحد، ثم البقية ما ترون من حفلات الذبح والتفخيخ والجثث المجهولة المقطوعة الرؤوس، واخيرا، وليس آخرا، اعلان «الامارة الاسلامية» السنية في الشطر السني من العراق.. هل هذا ما كان ينتظر العراق؟!

وبعيدا عن التعقيدات السياسية (اللحظية) للازمة العراقية، نسأل: هل نحن شعوب ومجتمعات ليست مهيئة لممارسة الخيار الديموقراطي؟ هل هناك خطوات تسبق الذهاب الى صندوق الانتخاب، وهي بناء «الانسان الناخب» بناء فكريا وقيميا ونفسيا، حتى يعرف دلالات الانتخاب ومعنى التداول السلمي للسلطة، والاساس الفلسفي الذي تقوم عليه هذه الممارسة السياسية.

دعونا من العراق المتفجر، الذي يمر بحالة «خاصة»، ولنذهب الى ساحات اخرى: اليمن، مصر، غزة.. وغيرها. أين ذهب خيار الناخب، وكيف فهم العملية الديموقراطية، وماذا اضافت له؟

نتحدث هنا عن مسألة أعقد وأعمق من محاسبة اختيارات الناخبين، فهي مسألة «تفصيلية»، المسألة الاجمالية والكبرى، هي في التجول داخل عقل الناخب العربي، والمُنتَخب العربي، أكان للبرلمان او للمجلس البلدي، او لأي هيئة أخرى، كيف يفهم ممارسته هذه؟ وهل هو مؤمن بشكل عميق بـ«تعددية» أوجه الحقيقة، وأن لا أحد يملك احتكارها، وانه لا يوجد أحد يملك تفويضا معصوما، وان الكل محكومون بسقف الدولة والمجتمع، وانهم كلهم يتحركون ضمن هذا السقف.

ما أريد قوله باختصار: بعض المجتمعات العربية، إن لم يكن جلها، تمارس الانتخاب بشكل او بآخر في البرلمان او في غيره، ولكن لم تثمر هذه العملية، رغم مرور عقود عليها في بعض الدول، وعيا ديموقراطيا، وبعدا عن الانجذاب للطروحات اللاديموقراطية.

بالعودة الى صاحبنا المثقف العراقي، الذي كان من اكبر المتفائلين بتحول العراق الجديد، بل والمساهمين في حدوث هذا التحول، فقد كان يرى ان مشكلة العراقيين الآن هي جزء من المشكلة السياسية العربية عامة، ويرى ان الشعوب العربية والناس العاديين غير المسيسين يستأهلون الديموقراطية، وغير متأزمين معها، وان سبب ارتداد هؤلاء الناس، في اللحظة الحالية، الى الطائفية او العشائرية، كما نرى في العراق، وفي غير العراق، هو اخفاق «التركيبة السياسية» العربية على مدى اكثر من خمسين عاما، وقال ان بعض العرب استقل عن الاستعمار منذ اكثر من ستين عاما، فهل هذه الفترة لم تكن كافية لنجاح تجربة الدولة العربية الديموقراطية الحديثة؟! فنحن لم نستقل اليوم.

كان تعليقي أن هناك جانبا أخطر واصعب في المشكلة وهو: هل الثقافة العربية هي التي ترحب بهذا النوع من الوعي اللاديموقراطي، لاسباب معقدة وكثيرة، فتجد نفسها في الاصولية والعشائرية والطائفية، اكثر مما تجد نفسها في الوعي الحديث القائم على اساسات فلسفية في الوعي السياسي؟ وهنا تصبح المشكلة، مع الاقرار بإخفاق «التركيبة السياسية» العربية المشار اليه، الا ان اخفاق هذه التركيبة (التي تشمل الساسة الحكام، والمثقفين المؤيدين للانظمة، او حتى المعارضين لها، باعتبارهم صورة مطابقة لهذه التركيبة بشكل معكوس) مع هذا كله يصبح اخفاق هذه التركيبة، هو في الحقيقة، جزءا من اخفاق العقل العربي كله في «هضم» الوعي الفكري السياسي الجديد. ولذلك سرعان ما يصبح البديل عن أي تضعضع تمر به الدولة العربية هو: الطائفة والعشيرة، ويصبح الخوف الدائم، لدى اي نخبة عربية، تراقب وتحلل الاحداث، هو أنه في حالة تضعضع الدولة المركزية، اي دولة في العالم العربي، يصبح الخوف «الاوتوماتيكي» هو من تفسخ المجتمع الى عشائر وطوائف متناحرة ومتحاربة، وكأن تسالم وتعايش هذه الطوائف والعشائر لم يأت الا بهيمنة الدولة وقوتها، وليس نتاج وعي داخلي اصيل، ومفروغ منه. النقاش، لم ينته، ولن ينتهي بطبيعة الحال، بين من يرى أزمة الديموقراطية، لدى العرب تأتي بسبب اخفاق التركيبة السياسية، وبين من يرى اخفاق الاخيرة هو نتيجة لاخفاق الثقافة العربية والوعي العربي في تجاوز وعي الماضي. ولكن هل هذا هو قدرنا، وعليه فهل هذا هجاء كهجاء عتاة المستشرقين للعرب بأنهم ليسوا مؤهلين للحداثة والتحديث والتنمية أبدا؟ في مقاربة تشبه القول بـ«بيولوجية» التخلف العربي!

طبعا، لا، المشكلة هي في الوعي، والوعي ليس شيئا غير قابل للتغير والتحول، ولكنه يأخذ وقته، ويحتاج الى بيئة مساندة، وفوق هذا كله يحتاج الى حملة وعي ورؤية صبورين ومكافحين.

التغيير يبدأ من تحت، ووعي الناس والمجتمعات في المجالات البعيدة عن ضجيج السياسة وصخب الاحزاب، هو الأهم، وهو الذي سيتدفق على حجرات السياسة الضيقة، حينما يمتلئ نهر الوعي الجديد بالماء الازرق الشفاف.

لذلك فإن تشجيع الوعي والقراءة وبث الكتاب النقدي و(الجديد)، وتعويد الناس على القراءة، بكل قوة، والنزول، نزول الدول ورجال الاعمال والمؤسسات، الى هذا المعترك، وجعل صناعة النشر والكتاب واجواء القراءة، عملا شاملا ودائما ومهم، هو التحدي الحقيقي والعميق، وهو ايضا نقطة البداية للتغيير الدائم، فاذا صلحت الارض للبذار فكل ما يغرس فيها يثمر. من اجل هذا كله، فما قاله الفيلسوف راسل، مرة اخرى، صحيح كل الصحة، فانتشار مساحة الوعي النقدي، وكثرة وتعدد الانتاج الفكري الحقيقي كفيل بتجفيف مستنقعات الجهل، التي يعيش فيها بعوض التعصب والاتجار السياسي به.

ومن اجل تحقيق هذا الامر، امر انشاء المجتمع القارئ المتصالح مع النقد يصبح خلق عادة القراءة لدى العرب مفتاحا اوليا، فنحن حسب الاحصائيات المتعددة اقل شعوب العالم في القراءة، واستطرادا في الكتابة ايضا. ان من تجسيدات هذا الاهتمام تخصيص وانشاء جوائز للكتاب، تصب في صالح صناعة الكتاب، وترفع من قيمة المؤلف، فتصبح اسهاما اساسيا في هذا المجال، مثل جائزة الملك فيصل العالمية، وجائزة سلطان العويس الثقافية. واخيرا ها هي الاخبار تزف الينا خبر جائزة كبرى من الامارات، هي جائزة زايد للكتاب، وهي جائزة تتكون من 9 فروع ، من ادب الطفل الى التنمية الى الرواية الى تقنية الثقافة الى النشر الى التوزيع الى المبدع الشاب الى الترجمة الى شخصية العام، رصدت لها ملايين الدراهم. مثل هذه المساعي هي التي تبني الانسان العربي الجديد، وتقول ان في الافق سحائب لم تعتصر بعد. هذا هو التغيير الحقيقي، وهو مشوار طويل بلا شك، ولكنه أبقى وأدوم من جعجعات السياسة وضجيج الطوائف.

[email protected]