وهل تستحق «سي.آي.إيه» سمعتها؟

TT

يقدر فريق من الباحثين الأمريكان والعراقيين العاملين في مجال الصحة العامة، أن 655 ألف شخص قتلوا في العراق منذ الغزو، بارتفاع أربع مرات، مقارنة بما كان عليه الحال في السنة التي سبقت الحرب، فما بين مجموع الـ655 ألف قتيل مدني، هناك601 ألف منهم كانوا حصاداً للعنف، والباقي بسبب من مرض أو غيره، وهو ما يعني أن حوالي500 شخص يموت في العراق يومياً، فمن يتحمل مسؤولية هذا الإرث الدموي؟

صرح الرئيس بوش عند انتخابه في مناظرة له في أكتوبر2000، بعزمه انتهاج سياسة خارجية «متواضعة»، الكلام الذي تحول بعد 11 سبتمبر إلى غزوه لأفغانستان ومن ثم العراق الذي وبالفعل لم يعقد أي اجتماع رسمي لكبار مستشاريه لدراسته، كما ينبغي أو كما قد يتصور البعض، حتى أن القرار المصيري الأخطر في فترة ما بعد الغزو، وهو حل الجيش العراقي الذي اتخذه الحاكم الإداري الأمريكي آنذاك بول بريمر، اكتفي بتنفيذه بالتنسيق مع رامسفيلد من دون معرفة مسبقة من بوش نفسه، والذي جاء متعارضاً أصلاً مع توصيات مجلس الأمن القومي. باختصار، غياب الإدارة الحقيقة والفعّالة والتي هي من سمات السياسة الأمريكية الخارجية، سمح «بشلة» من القرارات المصيرية لتكون موضع التنفيذ السريع وبأدنى قدر من الدرس والمراجعة.

ما من مؤسسة أخفقت في أداء رسالتها في عهد الرئيس بوش الابن كالـ«سي.آي.إيه»، حتى انها بدت عند انتهاء ولايته الأولى وكأنها النظير الحكومي لشركة «إنرون» التي استثار إفلاسها الصيحات المطالبة بإصلاحها، ففي الفترة التي سبقت غزو العراق وجدت «سي.آي.إيه» نفسها ترفع للبيت الأبيض أسانيد لحجج ومزاعم لا ترتقي أو تنتمي للتقارير الاستخباراتية الموثوق بدقتها، والمفترضة في أصول مهنتها، وهي رواسب لفساد تعود بتاريخها زمنياً إلى نهاية الحرب الباردة، وإن كنا نتحدث هنا عن الوضع العراقي، ففي شهر نوفمبر 2002 اجتمع في لندن رؤساء محطات «سي.آي.إيه» العاملة في الشرق الأوسط لعقد اجتماع سري في سفارة الولايات المتحدة، بهدف البحث في أمر الحرب على العراق، التي كانت على وشك الوقوع، وبحق كان هناك انقسام عميق بين المسؤولين المتعاطين بالشؤون العراقية والعاملين في قسم الشرق الأوسط من مكاتبهم والتابعين للوكالة نفسها. أحد المتآمرين، عفواً! المؤتمرين شرع بمناقشة خطط لأعمال تخريبية لقلب نظام الحكم العراقي الصدامي، تركت البعض تحت وطأة الصدمة من جراء الأساس الذي تحاول وكالة الاستخبارات الأمريكية بناء حربها عليه، كمثل إغراق عبّارة في الخليج لنقل البضائع من الشارقة ودبي وموانئ الخليج الأخرى إلى ميناء «قصر» العراقي، والتي تمثل أحد السبل الرئيسية لشحن البضائع المحظورة، وكأن مجرد إغراق العبارة ذريعة معقولة لشن حرب كالتي شنت لاحقاً، وكأن حمولة تلك العبّارة، لا تخلو من الركاب الذين لم يبد قتلهم بذي أهمية، وكما جاء على لسان مسؤول في «سي.آي.إيه»:«لم يملك المجتمعون في ذلك العرض أية خطط جدية للعمل السري، أو أية معطيات استخباراتية حقيقية، وإنما كانوا يتثبتون بالأفكار المجنونة ليس إلا».

إن مناقشة هكذا «خبصة» يعزى أمره جزئياً إلى محدودية المعلومات التي كانت بحوزة «سي.آي.إيه» والتي قلّصت خياراتها، فاكتشاف وتجنيد الجواسيس في مواضع الدولة الحسّاسة يستغرق رقماً من السنوات، وحين تسلم الرئيس بوش الابن رئاسته وصار العراق ثانية على رأس الأولويات، كانت خزانة «سي.آي.إيه» وقتها شبه خاوية، صحيح كان لها نفاذ إلى أجزاء من شمال العراق عبر المنطقة الكردية، لكن مصادرها في الجنوب كانت إمّا عملاء عراقيين من مستويات بسيطة، أو مهربين يستطيعون التنقل بين العراق والكويت فيحملون انطباعاتهم عن أحوال العراق السائدة، أو أولئك الذين كانوا على استعداد لجلب عينات من خرق مهملة قريبة من مواقع يشتبه بأنها لأسلحة دمار شامل وتسليمها إلى «سي آي.إيه» لفحصها، فمن أين سيأتي الخبر اليقين وهذا الشح في المراجع؟ ولذا، وللتغطية، دأبت إدارة بوش تعلي من نبرتها الخطابية بصدد الخطر الذي يشكله الإرهابيون وأسلحة الدمار الشامل التي صرح رامسفيلد بأن الحصول عليها من دول مارقة كالعراق مسألة وقت، ليتبعه رئيسه بوش بالتحذير من وصول تلك الأسلحة إلى أيدي الإرهابيين وبواسطة دولة كالعراق. بعبارة أخرى، التوجه بالأنظار بعد كابول نحو الوجهة الأخرى.. بغداد.

بقي القول إنه ومع حوالي ثلاثين عراقيا مهاجرا وافقوا على التعاون مع «سي.آي.إيه» بالعودة إلى بغداد للاتصال بعلماء أسلحة الدمار الشامل، أجمعت تقاريرهم وقبل شهور من غزو العراق على تخلي صدام عن برنامج تطوير الأسلحة النووية، فالشيء الأكيد أن البرنامج النووي العراقي كان قبل غزو صدام للكويت مشروعاً رئيسياً يعمل فيه ما لا يقل عن3 آلاف عامل، ولا ينقصه سوى سنتين إلى ثلاث سنوات لإنتاج قنبلته، ولكن وبطريق المصادفة جاءت نهايته تقريباً بتدميره من الجو بواسطة طائرة حربية أمريكية لم يكن طيّارها يعلم بأهمية الموقع الذي قصفه، ليعزز بضربة أمريكية مقصودة قضت على منشأة تخصيب اليورانيوم المسماه «معمل الصفا»، فإذا صدرت أجهزة الاستخبارات الأمريكية في أكتوبر 2002 تقريرها المعروف بـ«تقييم الاستخبارات الوطنية»، أعلنت بكل جرأة وبدون تردد عزم العراق على إعادة بناء برنامجه النووي كمبرر لغزوها له فيما بعد. كلمة أخيرة: شردت الحرب على الإرهاب أكثر من4.5 ملايين شخص، وقتلت 70% من مجمل وفيات أطفال العراق، وهجّرت 18 ألف طبيب عراقي، كما ساهمت الحرب على العراق وباعتراف «سي.آي.إيه» بظهور جيل من المتطرفين وبتنامي التهديد الإرهابي، والسؤال: هل تعتمد واشنطن في حربها المزمعة على إيران على معلومات مستقاه من «سي.آي.إيه» كمثل سابقتها عن العراق؟ فإذا صممت على عنادها، فهل تعي حجم الخسائر المرتقب، وكلفة فاتورة الحرب على الإرهاب حتى يومنا بإمكانها تسديد «ديون» دول العالم الفقيرة مجتمعة؟