فرنسا: استراتيجية اصطياد العقول

TT

ترى الحكومة الفرنسية، على ما يبدو، أن الكتاب يوازي العقل، وبالتالي فهو يستحق استراتيجية وطنية متكاملة. فهي لا تمول وتشجع وتدعم الكتاب بكل ما اوتيت من عزيمة، بل ترسم وتخطط، وتشكل الهيئات القادرة على التنفيذ المثمر الذي تمتد فروعه إلى أنحاء العالم أجمع. وقبل يومين احتفلت فرنسا، خلال عطلة نهاية الأسبوع، بعيد الكتاب، من خلال إحياء ثلاثة آلاف نشاط دفعة واحدة. وبما أن أحفاد موليير يعولون على النوعية وليس فقط الكمية، كما يحدث في بلداننا العربية حين نحتفل أحياناً بالكتاب، فقد استطاعت الهيئات المعنية أن تنسق مع السجون والمستشفيات والمقاهي والمتاحف وغاليريات الفن، وبائعي الأثاث، وصولاً إلى البقع الأكثر عزلة في البلاد، كي توصل الكتاب إلى كل مواطن أينما حل على الأراضي الوطنية. وبما ان المشروع جدي ويرصد له سنوياً، ما يقارب عشرة ملايين يورو، وليس مجرد ترف للتفكه والتقاط بعض الصور التذكارية، فقد طالت هذه التظاهرات ما يزيد على مليوني ونصف فرنسي، بشكل مباشر، وخصوصاً أولئك الذين «ابتعدوا عن الكتاب»، كما يقول المسؤولون. وكي يحكم المشروع قبضته على المستهدفين من الكسالى والفارين من عدالة الحرف، فقد تم تحديد الموعد بحيث يأتي ضمن سياق مجموعة من المغريات الثقافية المتتالية التي تجعل المضربين عن القراءة، يخرون أمام غواية الكتاب، مهما بلغت درجة عنادهم. فقد انتقي الموعد بحيث يأتي بعد الموسم الأدبي السنوي في سبتمبر، وقريباً زمنياً من معرض فرانكفورت السنوي الضخم للكتاب، وعلى أبواب رأس السنة. وهكذا يجد المواطن نفسه محاصراً بالكتب وأخبارها وأسرارها وفضائحها، وكأنما مطرقة لا تكف عن ايقاظه من سباته، لا بل ويضطر تحت الحاح الدعاية والغواية أن يهدي الأصدقاء شيئا من هذه الوجبات الشهية بمناسبة الأعياد.

مسالك، في طبيعتها لا تشبه ما يدور عندنا، حيث يبدأ الإصلاح من كل الأماكن باستثناء الرأس، مكمن كل عطب وعلة. وكي تبقى الرؤوس تائهة فاقدة لوعيها، فإن الكتب تصادر وتضطهد، وتعامل كالوباء، حتى تصيب الراغب بها بالنفور لكثرة ما يطاردها ولا يجدها. وحين سألت ذات يوم، في إحدى مكتبات مطاراتنا العربية العفية، عن سر غياب الكتب وحضور القرطاسية وبعض مجلات الفن الهابط والكلمات المتقاطعة، تصاعدت تنهدات البائع وقال ان المسألة معقدة، وتحتاج رخصاً ومتابعة مع الرقابة دائمة، تأكل وقته وجهده. وسألني ان أحمد الله لأنه يستطيع تمرير بعض الصحف (الحكومية). وبما ان البلد الذي نتكلم عنه له دورٌ معروفة ومطبوعات مشهود لها، فما بالك بمن لم يجعلوا الكتاب مهنتهم والطباعة غاية لهم. ونحن هنا لا نتحدث عن حال المدارس الميئوس منها، وإنما واجهات استقبال، تقرأ فيها عنوان البلد الذي انت بصدد دخوله. وبمناسبة ذكر العناوين فإن مطارات عربية أخرى، أخذت على عاتقها ان تعرض الكتب والصحف الأجنبية فقط، وهذه أحجية أخرى، قد يكون لها علاقة بخطورة الكلمة المكتوبة بحروف عربية، او بشلل ذهني عند بعض المسؤولين.

وبالعودة إلى فرنسا حيث خطط تنمية العقول وتغذيتها هي على أشدها، فقد رأت وزارة الداخلية (وليس وزارة الثقافة) أن من واجبها المساهمة في جعل فرنسا أكثر ذكاء وعبقرية، لذا اتخذت قرارات بـ«فلترة» المهاجرين، والوصول إلى ما اسمته «الهجرة المنتقاة»، بحيث يغربل الوافدون تبعاً لإمكاناتهم المعرفية، وليس أي شيء آخر. ورغم ان هذه السياسة مستهجنة من فرنسا، بلد الإخاء والحرية والمساواة، إلا أن وزير الداخلية نيقولا ساركوزي، أميركي الهوى، نزّاع إلى تمرير طارقي أبواب بلاده، في مصفاة لا يبقى فيها إلا أصحاب العقول والأفكار. وهكذا تقول فرنسا وداعاً للعمال الصغار والباحثين عن الأرزاق الزهيدة، وترسم سياسات تركز على اصطياد نخبة الطلاب العرب وغير العرب لتؤهلهم في جامعاتها، وزيادة في الحرص على استبقائهم، واستمالتهم، فقد اعطي هؤلاء الفرصة، منذ عام 2001 للبحث عن عمل، خلال ستة أشهر، بمجرد تخرجهم، كأي مواطن فرنسي. ولم تعد فرنسا تضيق الخناق على الطلاب الذين تنتقيهم، وستبدأ منذ مطلع العام المقبل بمنحهم إقامات سنوية أو لعدة سنوات دفعة واحدة، مع إعفائهم من الوقوف في طوابير طويلة، في اقسام الشرطة، طيلة يوم أو يومين كما كانت تفعل سابقا. لكن الأهم من هذا كله أن القنصليات الفرنسية لم تعد تستطيع اعطاء فيزا لأي طالب أجنبي دون ان يمر طلبه على «مركز الدراسات في فرنسا» الذي استحدثت أقسام له في السفارات الموجودة في بعض البلدان العربية حاليا، وستمتد لتشمل كل السفارات تقريبا، كي يفصل القمح عن الزؤان. ففي تونس، مثلاً، يستطيع هذا المركز ان ينتقي 2500 طالب، من خيرة الشبيبة، من أصل 85000 طلب يقدم سنوياً. وبمقدورنا ان نتصور مع المصائد الجديدة التي تنصبها الدولة الفرنسية للأذكياء الخريجين، كم من هؤلاء سيعودون فعلاً إلى تونس. والحال يمتد ليشمل الجزائر والمغرب ولبنان، ودول عربية أخرى، ما عاد بمقدورها أن تنمي قدرات أطفالها، وإن برز منهم القليل بفعل عوامل جانبية غير مقصودة، فهم سرعان ما يستوردون، ويقطعون تذكرة ذهاب بلا عودة، وهم يشعرون بالنصر المبين.

حتما ثمة علاقة بين الأموال التي ترصد لأعياد الكتب، وتلك التي تصرف على الطلاب الأجانب، وثمة استراتيجيات متكاملة تنفذها مؤسسات وهيئات متخصصة، للأبحاث والألعاب التربوية والموسيقى والهندسة المعمارية بجمالياتها، هذا عدا المسرح والسينما، وكله في سبيل إنعاش العقل وشحذ الابتكار الخلاق. والنتيجة ثروة لا تقدر بثمن.

حقيقة ان الفرنسيين يشكون من تقهقر أمام منافسة شرسة من كل صنف تسود العالم، لكن أمة تعتبر العقول أولويتها، وترسم خططاً محبوكة لاصطيادها وريها وتنميتها، هي امة لا يمكن لها إلا ان تنهض مهما كبت.

فهل يحق لنا أن نبقى نتساءل، وكأننا نعيش في المريخ، لماذا تأخر العرب وتقدم الآخرون؟

[email protected]