العراق: بعد تشخيص الحالة.. جرعة دواء جديدة؟

TT

لقد تعلمت، كمفاوض لفترة طويلة في الشرق الأوسط، ان اهم مطالب حفظ السلام هو اقناع كل طرف بالتكيف مع الواقع. وفي العراق اليوم، بعد ثلاث سنوات ونصف السنة من دخول الولايات المتحدة لحرب هناك، لا أحد يبدو انه يفعل ذلك.

ربما كان للشيعة، الذين يسيطرون على الحكومة من الأسباب ما يجعلهم لا يثقون بالسنة، ولكنهم ليسوا على استعداد للاعتراف بحاجة السنة لضمانات رسمية بنصيب لهم. وربما يفهم السنة، عقلانيا، انهم لا يسيطرون على كل مواقع السلطة والنفوذ، الا أن عليهم، عاطفيا، قبول فكرة ان الشيعة، الطبقة الأقل مستوى في نظرهم، هم القوة السياسية المسيطرة. والأكراد، بغض النظر عما يقولونه، يتوقعون الاستقلال، ويريدون ببساطة إطارا سياسيا يشرع هذا الوضع بدون تعرضهم لتهديدات من تركيا وايران.

وماذا عن إدارة بوش، هل تكيفت مع الواقع؟ هي تدعي تحقق التقدم، حتى في الوقت الذي نتورط فيه في حرب أهلية. وتمت تجربة خطط الأمن الجديدة وفشلت. وتصاعدت التوقعات بأننا سنخفض قواتنا، ثم انخفضت مع تصاعد العنف الطائفي واستمراره.

والاستمرار في هذا الطريق هو وصفة لتجنب الحقيقة. ولكن وضع برنامج زمني والانسحاب، ربما يمثل نوعا من الانكار، انكار ما يمكن ان يحدث في المنطقة بعد الانسحاب. فماذا يمكن ان نفعل.

نقطة البداية هي الاعتراف بأن العراق، لن يصبح دولة ديموقراطية وموحدة، تعتبر مثالا للمنطقة. فالعنف والانقسام السني الشيعي قضيا على ذلك. ويمكن للعراق، في افضل حالة، التحول الى دولة لديها ما يلي:

* حكومة مركزية ذات سلطات محدودة.

* حكومات اقليمية ذات استقلال ذاتي واسع.

* المشاركة في عائدات النفط.

* على المستوى المحلي اطار تقريبي من التمثيل والتسامح للاقليات. وفي هذه الظروف يمكن أن يحقق العراق الاستقرار.

مثل هذه النتيجة لن تتبلور ذاتيا. ومن المؤكد امكانية ظهورها بعد حرب أهلية طويلة، وهو الطريق الذي نسير فيه الآن ومعنا العراق. وربما تؤدي ثلاث مبادرات متداخلة الى طريق اكثر قبولا لإدارة هذه النتيجة أو على الأقل الانسحاب من العراق.

اولا: حان الوقت لإدارة بوش لتصر على ضرورة عقد مؤتمر المصالحة، والا تنتهي اعماله الا بعد التوصل الى اتفاق حول تعديلات الدستور. لقد قدم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي خطته للمصالحة الوطنية، ولكنها فشلت في مواجهة قضية الدستور والضمانات القانونية التي يريدها السنة.

لقد أيد السنة الدستور والمشاركة في الانتخابات في شهر ديسمبر الماضي على اساس اجراء تعديلات حول المشاركة في عائدات النفط، وحظر انفصال الاقاليم ودور الاسلام في الدولة. غير انه لم يتم تطبيق هذه التعديلات على الاطلاق، والآن بعدما تم تشكيل لجنة اخيرة لمناقشته، يبدو للسنة ان عليهم التفاوض تحت تهديد السلاح: أي مناقشات متوازية، لتطوير خطط لانفصال الاقاليم.

أما السنة فهم لا يريدون دولة بلا موارد. وإذا اعتقدوا انهم في نهاية الأمر ان هذا ما سينتهون اليه، فإنهم سيستمرون في قبول التمرد. اما بالنسبة للشيعة، فسيكون هذا بمثابة مبرر للاستمرار في الاحتفاظ بميليشياتهم. فليس هناك ميثاق وطني ولا إجراء رسمي يمنح السنة موطئ قدم قانوني، كما ليس هناك نهاية لتأييدهم للتمرد ولا استعداد من جانب الشيعة لتسريح ميليشياتهم.

ثانيا، يجب عقد المؤتمر الذي تقرر فيه اشراك الأطراف الاقليمية ودول الجوار. لا يريد أي منهم ـ ايران والسعودية والأردن وسوريا وتركيا ـ لإدارة بوش النجاح في العراق (على النحو الذي عرّف به الرئيس النجاح). رغم ذلك، كلهم يخاف تبعات ما قد يحدث نتيجة انسحاب الولايات المتحدة من العراق. إذ ان اندلاع حرب أهلية واسعة النطاق تتسبب في نزوح العراقيين خارج البلاد مع احتمال تسرب عدم الاستقرار عبر الحدود الى دول الجوار، وتدخل دول أخرى لحماية مصالحها وحماية حلفائها العراقيين، وكلها اوضاع تشكل كابوسا لإيران والسعودية. وفيما لا يتوقع ان يتفق جيران العراق على الكثير من القضايا، من المحتمل ان تخلق الرغبة المشتركة في عدم اندلاع حرب اهلية في العراق قاعدة لفهم عام لما ستفعله هذه الأطراف، وما لن تفعله بغرض بسط الاستقرار هناك. ويجب على ادارة بوش العمل على انعقاد هذا المؤتمر الآن.

ثالثا، يجب ان يبلغ الرئيس رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي، بأن الولايات المتحدة لن تفرض موعدا نهائيا للانسحاب، لكنها ستتفاوض مع حكومته بشأن الاتفاق على جدول زمني لسحب القوات الاميركية من العراق. الفرق بين الموعد النهائي والجدول الزمني المتفق، هو الفرق بين ترك العراقيين في هذه الوضع ومطالبتهم بتولي مسؤولياتهم. تحديد الجدول الزمني يشجع على الاحتفاظ بالميليشيات في ظل المخاوف من اندلاع حرب أهلية، فيما الاتفاق على جدول زمني يجعل كل المجموعات الطائفية تشعر بأنها يمكن ان تشارك في صياغة مستقبل البلاد، ولكن الزمن يمضي، وإذا لم يبدأوا التعامل بجدية تجاه المصالحة ومباشرة مسؤولياتهم فإنهم سيواجهون مأزقا.

لا يبدو ان هناك طرفا في العراق يرغب في وجود الولايات المتحدة، ولكن الكل يخشى انسحاب قواتها من هناك. وفي نفس الوقت، يبدو الكل رغب في المشاهدة وتجنب التعامل مع المشاكل العسيرة وترك مسؤولية القتال للولايات المتحدة. هذه المسألة يجب ان تتوقف.

يجب ان تكون هناك علاقة بين الجهود الرامية الى التوصل الى مصالحة ومنهجنا في التوصل الى اتفاق حول توقيت سحب القوات الاميركية. اذا تمكن العراقيون من التوصل الى ميثاق وطني حقيقي، فإن الولايات المتحدة يجب ان تكون اكثر مرونة تجاه الجدول الزمني والانسحاب. وإذا فشلت الأطراف العراقية في ذلك، يجب ان تكون الولايات المتحدة كثيرة المطالب فيما يتعلق بالجدول الزمني. وفي نهاية الأمر، اذا اصبح العراقيون على استعداد لحل خلافاتهم السياسية الداخلية وتكيفوا مع الواقع وتعاملوا مع الخيارات الصعبة التي تواجههم، فإن وجود الولايات المتحدة في هذه الحالة سيساعد في الانتقال. ولكن اذا واصلت هذه الأطراف تحاشي مواجهة الواقع، فإن وجود الولايات المتحدة سيطيل ببساطة حالة انكارهم للواقع وحالة إنكارنا نحن ايضا للواقع. اعتقد ان الوقت قد حان لإحداث تغيير في الوضع السائد.

* مدير تخطيط السياسات بوزارة الخارجية، خلال فترة رئاسة بوش الأب، ومنسق شؤون الشرق الأوسط خلال فترة رئاسة بيل كلينتون، ويعمل حاليا مستشارا قانونيا لمعهد سياسات الشرق الأدنى بواشنطن.

خدمة «واشنطن بوست»

(خاص بـ«الشرق الأوسط»)