هكذا غرقت الوساطة القطرية في بحر غزة!

TT

عندما ذهب مـدير المخابرات المصرية عمر سليمان الى دمشق، بعد طول انقطاع، ساد إحساس بأن الذين ربطوا أنفسهم وقضاياهم بإيران وأعطوا لوزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني دوراً أكبر من دولته وهو غير مؤهل له، ربما أنهم راجعوا حساباتهم، وأدركوا ان مصر تبقى مصر، وأنه لا استغناء عن الدور المصري لا بالنسبة لسوريا العالقة في عنق الزجاجة، ولا بالنسبة لحركة حماس التي غدت كمن فقد وعيه في لحظة مصيرية حاسمة، ولا بالنسبة لبعض أطراف المعادلة اللبنانية الذين فقدوا عقولهم، وساروا على طريق المجهول، الذي أقل ما يمكن ان يقال فيه، أنه قد يكون العودة للحرب الأهلية البغيضة المدمرة.

كان الاعتقاد، وعمر سليمان في طريقه الى دمشق، ان المياه عادت الى مجاريها بين القاهرة ودمشق، وأن حركة حماس استعادت رشدها، وأنها بالأساس قد تكون تقصدت ألاَّ تعطي وزير الخارجية القطري شيئاً، لأنها أرادت توفير هذا الشيء لمصر التي لا تزال حاضرة في قطاع غزة، والتي لا يمكن الاستغناء عن دورها المحوري والأساسي بالنسبة للقضية الفلسطينية.

لقد كان الاعتقاد ومدير المخابرات المصرية في طريقه الى العاصمة السورية، ان هذه الزيارة هي بداية إذابة الجليد بين مصر وسوريا، وأن المياه ستعود الى مجاريها، وأن العلاقات الأخوية ستعود الى طبيعتها بعد تردي هذه العلاقات بين هاتين الدولتين الشقيقتين في أعقاب خطاب «الانتصار» الشهير الذي ألقاه الرئيس السوري بشار الأسد في مؤتمر لنقابة الصحفيين السوريين، وضمَّنه ما أُعتبر إدارة للظهر لمصر وكل الدول العربية.

لكن وقبل ان يصيح الديك، كما يقال، ثبت خطأ هذه التقديرات كلها، وثبت ان دمشق ليست بوارد التخلي عن تحالفها الاستراتيجي مع إيران، ولا بوارد القفز من القاطرة الإيرانية، كما وثبت أن التزام حركة حماس، داخلها وخارجها، مع مرشد الثورة في طهران له الأولوية على التزامها بمصر وقبل ذلك بالشيخ حمد بن جاسم وبدولته ولذلك، فإنها لم تعطه ما أراده عندما ذهب الى غزة باحثاً عن مجدٍ يفتقد إليه فانتهت رحلته الى الفشل الذريع وغرقت وساطته في بحر غزة، وذلك رغم أنه لا يزال يصر على أنه لا تزال هناك فسحة من الأمل ولا يزال يتحدث عن مساعٍ عربية، والمقصود هو مساعي قطر ومعها سوريا وإيران، لحل استعصاء تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية.

كان وزير الخارجية القطري تحت إلحاح عقدة السعي لدور أكبر منه، وأكبر حتى من الدولة العزيزة والشقيقة قطر، قد فاتح وزيرة الخارجية الاميركية كونداليزا رايس لدى التقائه بها على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة الأخيرة باستعداده للتدخل من أجل حل عقدة حكومة حماس الفلسطينية، ليصبح بالإمكان استئناف العملية السلمية على المسار الفلسطيني، وفقاً لتوجهات الرئيس بوش وتعهداته التي واظب على تكرارها بصورة متواصلة في الأونة الأخيرة.

وكان رد فعل رايس مشجعاً لكنها اشترطت موافقة حماس على البنود الستة التي كانت اتفقت بشأنها مع وزراء الخارجية العرب، الذين التقتهم في نيويورك، ومن ضمنهم بالطبع وزير الخارجية القطري ومع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهذه البنود وكما هو معروف تستند الى مبادرة السلام العربية، التي أقرها الزعماء العرب في قمة بيروت عام 2000.

تجدر الإشارة هنا الى ان الرئيس الفلسطيني محمود عباس (ابو مازن) كان قبل ذهابه الى نيويورك، لحضور اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة وللالتقاء باللجنة الرباعية وبالرئيس الأميركي جورج بوش على هامش هذه الاجتماعات، قد انتزع من رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية، موافقة على هذه النقاط كلها بدون أي تعديل أو تبديل.

لكن وبعد وصول عباس الى نيويورك، حاملاً ما تم الإتفاق عليه مع حماس الداخل ككنز ثمين، فوجئ ببيان أصدره إسماعيل هنية أعلن فيه تخليه عن اتفاقه السابق المشار إليه وإصراره على استبدال كلمة «مبادرة» بكلمة «شرعية» بالنسبة لمبادرة السلام العربية التي نص أحد هذه البنود الستة على ضرورة إلتزام حكومة حماس بها كشرط للاعتراف بها والتعامل معها.

وبذلك فقد عادت الأمور الى نقطة الصفر وشعر محمود عباس (أبو مازن) بالإحباط والإحراج مما دفعه الى التأكيد في خطابه الذي ألقاه من فوق منصة الأمم المتحدة على أن أي حكومة وحدة وطنية فلسطينية سيجري تشكيلها سيتم الزامها بالاعتراف بإسرائيل، بالموافقة على مبادرة السلام العربية التي جرت بلورتها في البنود الستة الآنفة الذكر.

لقد قال أبو مازن خلال لقاء معه في عمان بعد عودته من الولايات المتحدة ان تدخل خالد مشعل المقيم في دمشق، هو الذي جعل إسماعيل هنية يتنصل من الاتفاق الذي وقع عليه بموافقة زملائه في حكومة حماس وجعله يصر على استبدال كلمة «مبادرة» التي كان وافق عليها بكلمة «شرعية».. والهدف كما قال الرئيس الفلسطيني هو إحراجه وإفشال رحلته الى الولايات المتحدة والتشويش على لقاءاته مع جورج بوش، وبعض أركان إدارته ومع اللجنة الرباعية المخولة بمتابعة خطة خارطة الطريق والمكونة كما هو معروف من الاتحاد الأوروبي وأميركا وروسيا والأمم المتحدة.

المهم ان الشيخ حمد بن جاسم «دقَّ على صدره»، كما يقال أمام وزيرة الخارجية الأميركية، وتعهد بحل هذه العقدة من خلال وساطة يقوم بها مع الأطراف المعنية فور عودته الى بلاده وهنا فإن، الاعتقاد الذي يصل حدود اليقين هو ان وزير الخارجية القطري، أراد من وراء عرض وساطته هذه، التأكيد للأميركيين على أنه قادر على فعل ما لم يستطع فعله «المحور المصري ـ السعودي ـ الأردني» الذي تؤيده وتنسق معه بعض الدول العربية.

وهكذا فقد عاد الشيخ حمد بن جاسم من الولايات المتحدة وهو يشعر أنه حقق انتصاراً على السعودية بالدرجة الأولى، ثم على مصر والأردن، ولذلك فقد بادر وعلى الفور بتجديد دعوة كان وجهها أمير دولة قطر الى الرئيس الفلسطيني لزيارة الدوحة، حيث خلال هذه الزيارة التي استغرقت ثلاثة أيام، جرت محاولات حثيثة لانتزاع موافقة (أبو مازن) على استبدال كلمة «مبادرة» بكلمة «شرعية» بالنسبة للبند المتعلق بمبادرة السلام العربية، لكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل، وكانت النتيجة ان عاد محمود عباس الى رام الله، بعد الاتفاق مع القيادة القطرية على ان يقوم وزير الخارجية القطري بزيارة خاطفة الى دمشق، ثم يأتي للقائه ولقاء رئيس حكومة حماس إسماعيل هنية للبحث في هذه المسألة، ولكن على أساس البنود الستة المشار إليها.

وهكذا فقد ذهب الشيخ حمد بن جاسم الى دمشق، حيث التقى الرئيس السوري بشار الأسد، وعقد اجتماعاً مع خالد مشعل حضره الى جانب باقي قادة حماس في الخارج وزير خارجية سوريا وليد المعلم، تم خلاله وضع ورقة جديدة ببنود غير البنود الستة الآنفة الذكر. وهي ورقة جاء بها وزير خارجية قطر الى غزة، فجرت حولها نقاشات صاخبة مع محمود عباس وبعض مساعديه، وكانت النتيجة ان رفضتها الرئاسة الفلسطينية، فأضطر الوزير القطري بالذهاب بالورقة الأصلية الى حكومة حماس فرفضها إسماعيل هنية هو ووزراؤه، وبرفضهم هذا وجهوا ضربة للمبادرة القطرية.

لقد أجرى حمد بن جاسم خلال اجتماعه مع محمود عباس أكثر من اتصال مع مسؤولين في الخارجية الأميركية لإقناعهم بضرورة استبدال كلمة «مبادرة» بكلمة «شرعية» بالنسبة للبند المتعلق بمبادرة السلام العربية، لكنهم أصروا على الورقة السابقة كما هي وكانت النتيجة ان عاد وزير الخارجية القطري من غزة خالي الوفاض، وإن تكللت محاولته للتشويش على السعودية ومصر والأردن بالفشل .

فمن الواضح ان الشيخ حمد بن جاسم قبل ان يقدم على هذه المغامرة، بحثاً عن دور إقليمي يتقدم به كورقة اعتماد لدى إدارة بوش. لم يدرس الأمور ولم يدقق بها جيداً وغاب عنه ان إيران تحت ضغط قضية القدرات النووية، لا تريد هدوءا في هذه المنطقة ولا انفراجاً بالنسبة للأزمة الفلسطينية، وأن دمشق التي تعيش كوابيس تشكيل محكمة دولية على خلفية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، تتخذ نفس الموقف الذي تتخذه طهران، ولذلك فإن الفشل الذريع كان نتيجة «غزوته» الى غزة وذلك على غرار تلك «الغزوة» التي أخذته الى بغداد لإقناع صدام حسين بالتنحي وترك مقاليد الحكم فعاد بخفي حنين.