ماراثون نوبل: نعم نجحنا وفعلناها.. ولكنها ليست معجزة..!

TT

أعلم أن كثيرين، في ضوء فوزي بجائزة نوبل للسلام، تواقون لمعرفة قصة النجاح التي أهلتني للفوز بجائزة نوبل للسلام، ذلك الحدث الذي لا يزال ساخنا وطازجا، ولم يمض عليه أسبوع بعد. فالفكرة ببساطة وبالتأمل تقول لك: إنك إذا وضعت «دعما» ماليا أكبر، داخل الماكينة القديمة الاقتصادية القديمة نفسها، فإنك ستحصل على النتائج القديمة نفسها، ولسبب بسيط، وهو أن المساعدة ستنتقل على الأكثر، مثلما حدث في الماضي، من جيب حكومة إلى جيب حكومة أخرى، حيث أنها ستخصَّص لميزانية «الصحة» أو «التعليم». لكن الحقيقة هي أنه حتى في البلدان التي توفر حكوماتها خدمات العلاج الطبي والتعليم «للجميع»، فإنها من النادر أن تتوجه إلى المعدمين. ولسبب آخر بسيط أيضا، وهو أنه وفي أي مجتمع، يكون النصف الأعلى منه قادرا على العناية بنفسه. إنه النصف الأسفل من المجتمع الذي يعاني من أسوأ درجات الفاقة، كما نجد في المقابل، وعلى العكس من ذلك، أن ابتكار نظام القروض المصغرة (مايكرو كْريدِت) على يد القطاع الخاص، كان مسارا أفضل. فالحكومات لا تستطيع تقديم قروض للفقراء أو تقديم قروض لأي شيء، لأن أي مبادرة تقوم بها تصبح نشاطا سياسيا. وفي الكثير من البلدان الشديدة الفقر، تختفي النقود بسرعة، فيما لن يستطيع البيروقراطيون، وربما في القريب، أن يحصلوا على رواتبهم الشخصية إلا إذا تم ضخ مساعدة مالية جديدة.

والى ذلك يذهب تقديري الى أنه يمكن تنفيذ نظام «القروض المصغرة» بطريقة قصيرة جدا. فأنت لا تحتاج إلى بنية تحتية ضخمة. وهو نظام قابل للبقاء بعكس طرائق تقديم المساعدات التقليدية، فأنت لا تحتاج إلى مواصلة ضخ المصادر لإبقائها على قيد الحياة. فحتى القرض البسيط المساوي لـ 200 دولار يعاد إرجاعه، فيمتلئ الوعاء ثانية وينمو.

أما في تجربتي، فالإشارة الواجبة هي أن تقديم القروض يتم بشكل أساسي للنساء، لمساعدتهن على تأسيس كرامتهن وهويتهن في العائلة. وهذا بالمقابل يساعد الأطفال. ويمكن القول إن معدل العجز عن إعادة القروض هو صغير جدا، بل أن الإيفاء بالديون يصل إلى 98%، وهذا أمر تحلم بتحقيقه البنوك التقليدية. أما الإشارة الأخرى المستحقة أيضا فهي أن كل النظام يعمل على مبدأ الثقة، لا بتقديم ضمانات إضافية، وإنما بالمحاسبة الكاملة، إذ من السهل تعقب كل دولار يذهب، لأن مجموع الأموال صغير يمكن استخدامه لأغراض محددة.

أما في بنغلاديش، فالذي حدث أن التجربة استمرت لفترة طويلة واقتربت من الاستدامة، لأنها كانت أصلا موضع دراسة مطولة، فكان أن شاهدنا كيف يتنامى الدخل، وتتحسن خدمات الإسكان والتعليم، بل حتى نسبة الوفيات بين الأطفال انخفضت، نتيجة لتأسيس المرأة لمشروعها التجاري، مثل شراء بقرة أو عنزة ثم إنتاج الحليب للسوق المحلي، أو إنشاء أوعية وقدور لفتح مطعم صغير.

وإلى جانب نظام الإقراض المصغر، لعبت تكنولوجيا المعلومات التي هي على مستوى مصغر لا مكبر (أي على مستوى المستهلك الذي هو مستوى النساء الفقيرات) دورا مهما. فعلى سبيل المثال، في بنغلاديش لدينا برنامج يهدف إلى توفير التمويل للهواتف الجوالة للنساء الفقيرات في القرى. وهن بالمقابل يبعن مكالمات هاتفية للقرى الأخرى، أي تصبح كل منهن شركة «خدمات هاتفية» على المستوى المحلي. وهذا لا يتطلب استثمارا حكوميا كبيرا في إنشاء البنية التحتية الخاصة بالهواتف الأرضية، أو ضرورة قيام برنامج «تدريب» ضخم. واليوم هناك 11600 «سيدة هاتف» وكل منهن تغطي قريتين.

وفي المقابل، فسيدات الهاتف في هذه القرى لا يدرن مشاريعهن فقط، بل يستطعن الحصول على معلومات طبية عند عدم توفر طبيب، أو تفحص أسعار السلع في الأسواق للتأكد من أن الفلاحين لن يحصلوا على مبالغ أقل مما يستحقونها عند بيعهم للحبوب. ولنا أن نتصور هنا أن تكنولوجيا المعلومات، وبهذا المستوى والتوظيف المبسط منحت القرويين قوة كي يقصوا الوسطاء الذين كانوا يغشونهم.

كذلك، علينا أن نقبل بحقيقة وقوع العولمة، وهي التي تحدث منذ بدء عصر التجارة والسفر، وإشارتي هنا الى تاريخ قديم منذ طريق الحرير وكولومبس، وأراهما جزءا من العولمة. إنها لا تحتاج إلى حكم أي شخص. لذلك فإنه من غير المنطقي أن يقف المرء ضدها. بل على العكس، أرى أن عليك أن تفكر بالكيفية التي تستخدمها لجعلها نوعا مفيدا من العولمة.

والطريقة التي تضع العولمة على الطريق الصحيح هي الاستفادة منها لا أن نصبح ضحايا لها. والطريق لتحقيق ذلك هو بإيجاد المصادر التي يمكن إيصالها للناس الأكثر فقرا، وهذا يعني استخدام التمويل من خلال نظام الإقراض المصغر واستخدام تكنولوجيا المعلومات، وعند ذلك تبدأ العولمة بالمساعدة على تقليص الفاقة أكثر مما يتصوره أي شخص، لأن العالم بأسره بدلا من السوق المحلي أصبح المكان الذي يكسب المرء عيشه منه. فبدلا من نظام الأجور التقليدي يستطيع الإنسان الفقير أن يحصل على النقود الآن. سيريد الجميع شراء القميص المصنوع باليد بدلا من ذلك المصنوع بالماكينة.

وحتى لا يذهب الظن بأحد بأن إشادتي بها مطلقة، فبالتأكيد يجب وضع ضوابط للعولمة. فاليوم، وعلى سبيل المثال، هناك ما يقترب من حركة مرور عالمي كبير بدون وجود أي سيطرة على المرور، ومن هنا وإذا كنت كبيرا فأنت تستطيع التقدم، وإذا كنت صغيرا فإنك ستدفع جانبا. يجب أن تعمل الضوابط للسائق البطيء الذي يقود دراجة بثلاث عجلات، مثلما هو الحال مع السائق الذي يجلس وراء سيارة سريعة جدا.

كل ما هو موجود اليوم في العالم هو منظمة التجارة العالمية، وهي لا تعدو أن تكون جرافة تقف أمام أنظمة اقتصادية وشركات عملاقة تعمل على إقصاء المنتجين الصغار من السوق. ومن مفارقات العولمة بالطبع الحالة الأميركية، فاقتصاد عملاق مثل الولايات المتحدة يقول لك إنه يجب أن يبيع كل شيء في الأسواق الأخرى، لكنه في الوقت نفسه يقول للعالم: «لا يمكنكم بيع الفولاذ أو المنتجات الزراعية لنا».

ولتأكيد هذه المفارقة، وعلى سبيل المثال أيضا، تساوي المبالغ المخصصة لتعويض المزارعين الأميركيين التي وصلت أخيرا إلى 83 مليار دولار، أربع مرات ما سيكلفه تمويل نظام «إقراض مصغر» يغطي حاجة 100 مليون أفقر عائلة في العالم ولمدة 10 سنوات كي يجعلهم أناسا منتجين.

*مؤسس بنك الفقراء في بنغلاديش وحائز جائزة نوبل للسلام 2006. المقال مأخوذ من حوار أجرته معه خدمة «غلوبال فيو بوينت» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»