العرب: ثقافة خداع النفس.. وخداع الآخر

TT

من بين برامج رمضان الترفيهية استوقفني برنامج «كميرا فون» في احدى الفضائيات العربية وهو نسخة من «الكميرا الخفية» لكن فكرته رغم بساطتها تنطوي على مدلولات كبيرة وخطيرة فهو يتخفى وراء كونه اذاعة عالمية لكل العرب نشأت بعد احداث سبتمبر المرعبة ويهدف الى تحسين صورة العرب باعتبار ان الاذاعة تبث في العالم كله وبلغاته المختلفة. وما ان تستضيف المذيعة شخصية ما وتسألها عن احوال العرب حتى تنبري الشخصية بالنقد للحكام والأوضاع إلى آخره.

لكن المذيعة تراجع الشخصية باعتبار ان ما قالته يتنافى مع الهدف المقصود، وسرعان ما تتراجع الشخصية من النقيض الى النقيض، فتمدح الحكام وتبالغ احيانا في الامجاد العربية، وتقرأ ما خطته المذيعة ترتيلاً في الديمقراطية وحتى الابداع العربي!

لا شك ان هذا البرنامج يعبر بصورة حقيقية عن ثقافة تجذرت في العالم العربي وهي ثقافة التحدث بخطابين أحدهما للداخل والآخر للخارج بصرف النظر عن الحقيقة إن كانت في هذا الخطاب أو ذاك، أو كانت مجافية للخطابين. ويستوي في هذا المنوال الحاكم والمحكوم، والجاهل والمثقف في غالب الأحوال.

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه ونحن ما زلنا مع برنامج «كميرا فون» هو كيف بوسعنا ان نخدع العالم بحضارتنا المتقدمة وديمقراطيتنا الرحبة وانجازاتنا الباهرة، بينما العالم اصبح قرية، وهم لا يخفى عليهم حالنا في هذه القرية التي هم مصدر تواصلها واتصالها ويعلمون علم اليقين اننا ليس لنا ادنى نصيب في كل هذه الانجازات؟!

من السهل ان يتصدى البعض لما نقول: فيشير الى ان هذه العينة من الذين استضافتهم «اذاعة العرب لكل العالم» هم عينة عشوائية من عامة الناس بالرغم من ان بينهم مهندسين واطباء ومع ذلك دعونا نوسع دائرة الاختبار لتشمل صفوة المثقفين ومعظم من هم في السلطة وفي صدارة العمل السياسي والمقاومة.

دعونا نبدأ بالمثقفين ولغة الخطاب المتباينة بين الخارج والداخل. من ابرز الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها هي انهم عندما يتحدثون في الفضائيات الاجنبية تختفي لغة العنتريات ويحاولون التحدث بشيء من الموضوعية وعندما تستضيفهم الفضائيات العربية يتحدثون بلغة مختلفة جداً مشحونة بالعنتريات، وتسأل فيجيبونك بكل جرأة: ان الخطابين مختلفان ذاك للخارج وهذا للداخل؟ ولماذا الاختلاف اذن؟ لا يترددون في التأكيد على ما يسمونه اختلاف الجمهور المشاهد. ويتناسون ان الحقيقة واحدة ولا ينبغي تلوينها بمساحيق تطمس معانيها، وان الداخل والخارج سيان وليس هناك اي معنى لتعبير خطابي الداخل والخارج. غير خداع النفس والتوهم بخداع العالم الاخر مع ابتداع تسمية للتستر على المعنى الواضح هي: خطاب الداخل، وخطاب الخارج.

وقطعاً، هذه الحالة الانفصامية تعبئ الداخل بمطالب واحلام تخالف الواقع مما يزيد الهوة اتساعا بين العالم والعالم العربي. وبين الشعوب العربية وما لقادتها من قدرات على الفعل.

لنأخذ أنموذجا من خطابي الداخل والخارج على المستوى الرسمي ونجعل السودان مثالا. منذ اكثر من عام اقسم الرئيس البشير في لقاء جماهيري: انه لن يسمح بأية قوات دولية تدخل اقليم دار فور وتبعه من بعد وزير دفاعه مستخدما ذات القسم ومضيفا: ان دار فور ستكون مقبرة للقوات الاممية. وعندما اجاز مجلس الامن ارسال القوات بموجب الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة، احتجت الحكومة الحالية بادعاء ان المجلس لم يتشاور معها وانه تجاوزها باستخدامه للفصل السابع. وهل تركت له مجالا للتشاور وهي منذ اكثر من عام تردد الرفض؟ والاجابة نعم من منظور ان كل ما كان يقال عن الرفض يندرج تحت الخطاب الداخلي ولا يعني بالضرورة عدم التشاور الرسمي على المستوى الخارجي من مجلس الامن ولكن كيف يفهم العالم ويتعامل مع هذا الانفصام؟!

وعلى مستوى الحركات والمقاومة الشعبية، نستعرض مثالين من حماس وحزب الله، حركة حماس قاطعت انتخابات الرئاسة الفلسطينية بمنطق انها من بدع اتفاقات اوسلو التي لا تعترف بها وعندما جاءت الانتخابات التشريعية التي هي من ذات النسيج خاضتها، بل وكسبت اغلبيتها وشكلت حكومتها ثم تمترست خلف ما تسميه بثوابتها الرافضة الاعتراف بالكيان الاسرائيلي وخارطة طريق الرباعية. وهذا التناقض ادى الى شلل في الحكم والمقاومة معا على نحو ما هو معروف، وهذه قمة الازدواجية في الخطاب والمعايير. واليوم يمر الشعب الفلسطيني بأسوأ المراحل في حياته.

وحزب الله خطف جنديين اسرائيليين وأدى ذلك الى حرب تجاوزت الشهر الحقت فيها اسرائيل دمارا شمل البشر والشجر والحجر على نحو لم يخطر على البال. وحزب الله صمد وقاوم بشجاعة لا تُنكر ولكن في لحظة من لحظات التجليات النادرة لدى القيادات العربية اعتذر الشيخ حسن نصر الله للشعب معلنا انه لو كان يتصور بنسبة واحد في المئة ان اسرائيل ستفعل كل ما فعلته لما اقدم على خطف الجنديين ومع ذلك لم يتخذ الجميع من هذا النقد مدخلا للمراجعة والتراجع، بل حتى حسن نصر الله نفسه اتبع هذا النقد في تناقض واضح الاشادة بالنصر الإلهي الذي حققته المقاومة واغلب الظن ان الجماهير الفايرة والمعلبة سياسيا اعتبرت ما قاله نصر الله من باب التواضع لانها تبحث عن انتصار لكونها شبعت من الهزائم!

اما قمة التناقضات وحالات الانفصام فتتجلى في مسألة غياب الديمقراطية في جل ان لم نقل كل عالمنا العربي. عندما اعلنت امريكا اسفها لدعم دول غير ديمقراطية لمدى ستين عاما وان ذلك كان من اسباب تفريخ الارهاب اخذنا جميعا نرفض ما نسميه بتوريد الديمقراطية الامريكية.

وانبرينا جميعاً نهاجم الدعوة الأميركية ليس دفاعا بطريق مباشر أو غير مباشر على تسلط حكامنا وانما كره في اميركا وفي كل ما يصدر منها. أخف ما قيل انها دعوة حق أريد بها باطل. وبعض ما قيل انها حيلة اميركية طلباً لمزيد من الانحناء من القادة العرب. وبعض القادة المحوا الى أن الديمقراطية ستأتي بحكام متطرفين في الأصولية. وطائفة من المثقفين زعمت ان الدعوة الأميركية ستعطل بلوغ الديمقراطية لان كل من يبدي اندفاعا لبلوغ الديمقراطية في هذه الآونة سيحسب على انه يستظل بالمظلة الأميركية ولذلك فان الاغلبية ستنأى عن خوض معارك في هذا الصدد في الوقت الحاضر وبين هذا وذاك تحللنا من التصويب نحو الهدف وباتت الديمقراطية بعيدة المنال!

ونختم بنموذج اخير وهو يشمل العرب اجمعين عنوانه وحدة الصف باعتبارها الأولوية في خط التماسك العربي. وتحت هذا الشعار وجدنا ان المحافظة عليه تدفعنا لكي لا نفعل شيئاً لاننا مختلفون حول كل شيء وافضل شيء نفعله هو ترك كل ما كان موضع خلاف حتى نحافظ على وحدة الصف. وهي في حاصل الجمع صفر!

والسؤال «هو كيف الخروج من كل هذه الانفاق المظلمة»؟