الطيور وأشباهها

TT

كنت راكباً السيارة مع رجل (فاصخ) ـ أي إنسان بايعها ولا يثمن العواقب ـ فطار بالسيارة بين السماء والأرض، وكلما قلت له: هدئ السرعة زادها أكثر، وكلما قلت له: أنزلني ضحك أكثر، وكلما شتمته رد على شتيمتي بأقبح منها وأكثر، وكلما فكرت أن افتح الباب واقفز تذكرت أن سرعة السيارة تجاوزت (180) كيلومترا بالساعة، فخفت أكثر، كل شيء كان أكثر وأكثر، والحمد لله، الحمد لله، وجدنا طريق (الهاي وي) مسدوداً ومكدساً بالسيارات الواحدة خلف الأخرى، وتوقفنا أخيراً إجبارياً، وما هي إلا لحظة وإذا بنا نسمع (ونانّ) سيارة البوليس التي كانت تطاردنا وتوقفت خلفنا، وهبط منها رجل البوليس ممسكاً مسدسه، فارتجفت بطبيعة الحال أكثر، وشاهدته وهو يقدم مسدسه للسائق ـ اقصد الرجل (الفاصخ) الذي كان بجانبي ـ ويقول له: خذ هذا، فهو أسرع للانتحار.. أعجبتني طريقته وأعجبني كلامه، فلم املك إلاّ أن أقول له على الطريقة الخليجية: (طخه، طخه)، وعلى الطريقة اللبنانية (أوصو)، وعلى الطريقة المصرية (اديلو بالمليان).. ولكنه للأسف قال ذلك ثم أدار ظهره العريض وذهب إلى سيارته، فيما فتحت أنا باب السيارة ونزلت منها، في الوقت الذي تحرك فيه السير، وفحط الرجل الفاصخ بسيارته من دون أن يلتفت لي أو يحاول معي أن أعود واركب معه، ووقفت على قارعة الطريق السريع، والسيارات تتخاطف من أمامي، وأنا رافع يدي التي كادت تنكسر من شدة التعب والرفع والإشارة، ولكن ما من مجيب، ساعتها فقط تيقنت فعلا أنني أحمق، وكنت اركب مع إنسان في منتهى النذالة، ولكن هل صحيح أن الطيور على أشباهها تقع؟!

***

مناسبتان لا أحب أن أشارك فيهما إلا إذا كنت مضطراً، وهما مناسبة الزواج، ومناسبة الموت، ولي في ذلك فلسفة وموقف ليس هذا وقت شرحهما، ولكنني قبل أيام ذهبت للعزاء في رجل ليس بيني وبينه أي كراهية ولا مودة كذلك، ولكنني ذهبت بالدرجة الأولى والأخيرة لأنني اطلب ديناً من احد أبنائه الذي ماطلني كثيراً، وبما انه سوف يرث فأملي بالله كبير، جلست في صف المعزين وشربت قهوة بدون سكر، وشربت ماء هو اقرب للغليان من البرودة، وسمعت من هو بجانبي يحدث من هو بجانبه ويترحم على الميت قائلا: انه لم يسبب تعاسة لأي إنسان حتى رحل، وتدخلت في الحديث بينهما بكل (لقافة) مع أنهما لا يعرفانني والحديث ليس موجها لي: فقلت لهما: بل انه سبب السعادة القصوى لمن لا يعرفه بعد وفاته.. فأخذا يحدجانني بعيون يقدح منها الشرر، وانتبهت الى أنني (طبيت) وقلت كلاماً غير لائق، فما كان مني إلا أن نهضت مغادراً بكل فشيله استحقها.

[email protected]