تغييب الأسماء.. أم الحقائق؟

TT

أحياناً تعتبر اسرائيل جزءاً من المنطقة وأحياناً أخرى يتم إغفالها تماماً في الحديث عن هذه المنطقة الجغرافية من العالم، والتي هي بكل المعايير منطقة عربية لغة وتاريخاً وثقافة وهوية، ولكنها ابتلت بالاستعمار والحروب والعنف والإرهاب منذ وعد بلفور، وإنشاء النظام الاستيطاني التوسعي في فلسطين، الذي تبنّى سياسة نشر الكراهية ومعاداة العرب وتدمير حياتهم وبلدانهم. وبعد أن تم اختراع مصطلح «الشرق الأوسط» وتعميمه، رغم وجود قرار في الجمعية العامة بعدم صلاحية هذا المصطلح للاستخدام، فقد تم تكريس هذا المصطلح لاستيعاب إسرائيل كجزء من المنطقة. إلا أن الأمر يختلف تماماً حين يتعلق بالبحث في العنف ضد الأطفال أو عمليات الإرهاب من اغتيالات وتفجير وقصف للمدنيين العزّل، أو الجرائم التي ترتكب بحق المدنيين في الحروب المتتالية التي تشنها إسرائيل ضد جيرانها، أو البحث في الفوضى والفقر اللذين يلفان أجزاء هامة من المنطقة. ففي هذه الحال يختفي ذكر إسرائيل ويشار إلى الدول العربية بالاسم، أو يشار إلى «المتشددين» أو «الراديكاليين» أو «القومجيين» أو «محور الشر» أو أي مصطلح يستخدمونه لمهاجمة الوطنيين العرب المدافعين عن حقوق ومصالح وكرامة أمتهم، الذين يمنعون «المعتدلين»، الذين في الغالب تزج في صفهم وأمامهم إسرائيل، من خلق منطقة تنعم بالأمن والسلام. ففي الأسبوع الأخير صدرت دراسة عن الأمم المتحدة حول العنف ضد الأطفال في «الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» أي في الوطن العربي. وشملت الدراسة معظم الإساءات التي قد يتعرض لها الأطفال في كل بلد عربي بالاسم، وعلى حدة، ولكن الدراسة لم تلحظ أبداً ما قامت به إسرائيل من مجازر بحق الأطفال العرب وهي التي قتلت منذ تأسيسها آلاف الأطفال الفلسطينيين واللبنانيين والمصريين، حسب أكثر التقديرات تواضعاً، وكأن حق الحياة للأطفال العرب غير مشمول بالدراسة التي تزعم أنها تدافع عن حق الطفل في التعليم والحرية والعيش دون عنف أو إساءة جسدية. وبالتزامن مع هذا التقرير تحدثت السيدة كونداليزا رايس لمجموعة العمل الفلسطينية في واشنطن دي سي لتقول (إن الأشهر الأخيرة كانت صعبة في المنطقة من العراق إلى لبنان إلى الأراضي الفلسطينية وإسرائيل، حيث كان من الصعب علينا جميعاً تحمل صور العنف وقصص المعاناة وموت الناس الأبرياء) وكأن كلّ هذا العنف الدموي سقط على المنطقة من كوكب آخر ولا علاقة للاحتلال الأمريكي أو الاحتلال الاسرائيلي بكلّ هذا العنف والمعاناة والموت الذي تتعرض له شعوب أمتنا العربية في العراق وفلسطين ولبنان بإدراك وإذن، أو تجاهل وممارسة حق النقض من قبل الولايات المتحدة لتغطية جرائم الحرب.

ووضعت السيدة رايس الشروط للشريك الفلسطيني للسلام وكأن هناك شريكاً إسرائيلياً للسلام، وما على العرب والفلسطينيين إلا أن يتخلوا عن حقوقهم التاريخية ومصالحهم وأرضهم، ويعترفوا بحق إسرائيل في العيش وكأن الذي يقتل ويدمّر ويشّرد هم العرب وليست إسرائيل التي تقتل الأطفال وتبيد العوائل وتقصف المنازل فوق رؤوس سكانها كل يوم بالطائرات الحربية الأمريكية الصنع، في خرق فاضح لكل الأعراف واتفاقيات جنيف الرابعة. وقالت رايس (إنها تعرف أن الفلسطينيين يعيشون في ظروف سيئة جداً وان ظروف معيشتهم تراجعت وهم بحاجة للمساعدة)، ولكنها لم تذكر مَنْ سبّب ذلك ولم تشر إلى إسرائيل واجراءاتها الإجرامية بحق المدنيين الفلسطينيين من قريب أو بعيد، مع أنها كانت تتحدث لمجموعة فلسطينية في واشنطن يصفقون لها ويفخرون أنها قدمت للحديث في مؤتمرهم كي تبرئ إسرائيل من كل جرائم الحرب التي ترتكبها يومياً بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، وتلقي باللائمة على العرب انفسهم فيما آلت إليه شؤونهم في العراق وفلسطين ولبنان.

وفي بريطانيا صدر تقرير سنوي لحقوق الإنسان عن مكتب وزارة الخارجية البريطانية ذكر أن المقاومة في لبنان أطلقت حوالي 4 آلاف صاروخ على اسرائيل، مضيفاً أن هذه الصواريخ لم تميز أحداً وقتلت أربعين اسرائيلياً تقريباً وأصابت أكثر من 2000 بجروح، أما أكثر من ألف لبناني من الشهداء المدنيين الذين قتلتهم الطائرات الحربية الإسرائيلية في قصفها المنازل والمشافي والجسور والمدارس والكنائس والجوامع والمعامل التي دمرتها إسرائيل بقصف حاقد وإجرامي فلم يأتِ التقرير على ذكره، والعذر هو السرعة وضيق الوقت الذي لا يتسع إلا لذكر الضحايا الإسرائيليين، أما الضحايا من العرب اللبنانيين فقد يتسع الوقت لذكرهم يوماً ما، والهدف طبعاً هو تغييب اسم إسرائيل عن سجل جرائم الحرب التي ارتكبتها قواتهم وجنرالاتهم وطياروهم وعدم ذكر إسرائيل إلا حين يتعلق الأمر بأمنها وواجب العرب الاعتراف «بحقها في الحياة». ومن الممنوع على وسائل الإعلام الغربية «الحرة» أن تذكر إسرائيل حين يتعلق الأمر بالجرائم التي ترتكبها بحق العرب، ولذلك تمضي إسرائيل بإبادة العوائل والأطفال وذلك بقصف البيوت مباشرة وتدمير المزارع، وفرض الحصار وارتكاب الاغتيالات وتفجير السيارات، ويشاهد معظم العرب ما تبثه لهم وسائل الإعلام الغربية عمّا يجري في منطقتهم، ويتبنى دعاة الاعتدال منهم هذا المنظور الذي يبرأ إسرائيل من جرائمها، ويحمّل العرب مسؤولية ما يجري، ويتم اعتماد التقارير الغربية كمراجع موثوقة قادمة من الغرب عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي حيث مازال البعض يعيش وهمَ الحياد الأكاديمي والإنصاف الغربي، والذي وإن كان موجوداً في مسائل أخرى، فهو بالتأكيد غير موجود حين يتعلق الأمر بالصراع العربي ـ الإسرائيلي.

ففي العراق أيضاً، وعلى مدى سنوات ثلاث، والشعب العراقي يعاني من الإرهاب والقتل والعنف وتدمير بلاده، ولم يعتبر المسؤولون عن هذه الحرب الأمر صعباً، إلى أن بدأت خسائرهم تزداد بشكل كبير وانتخاباتهم تقترب، حين ذاك فقط اعتبروا أن «الأمور صعبة في العراق» وبحاجة إلى حلول. أي أن قتل ستمائة وخمسة وستين ألفاً من أبناء الشعب العراقي، وتهجير الملايين منهم، لم يجعل الوضع صعباً بالنسبة للولايات المتحدة، وحتى نشوب حرب أهلية، وخطر تقسيم العراق، لم يعتبر كافياً لدق ناقوس الخطر. الشيء الوحيد الذي جعل «الأمر صعباً» وبحاجة إلى معالجة فورية، هو ارتفاع عدد القتلى الأمريكيين في العراق، وهذا الذي أقنع بوش للمرة الأولى بتشبيه العراق بفيتنام، مع أن روبرت فيسك أجرى هذه المقارنة منذ سنتين على الأقل. النتيجة هي أن حياة العرب وبلدان العرب ومصلحة العرب لا تدخل في حساب من يجهز على العرب اليوم، فيحتل أرضهم، ويسرق مياههم وثرواتهم، وأن من يتبجحون من العرب بوجود «صداقات» لهم، يجب أن يدركوا أن هذه «الصداقات» لأشخاصهم لم تدفع «الصديق» لاحترام حياة شعوبهم وحرّية بلدانهم وكرامة دينهم، إذ كيف يمكن أن تكون حكومة ما صديقة لطرف تدمّر البلد الذي يحكمه، والذي هو مسؤول عنه وعن حماية أمنه واستقراره؟

والحلّ هو ان يدرك جميع العرب أن أسماءهم المختلفة لا تجعل الدم العربي مختلفاً في نظر الآخر، وأنهم هم المسؤولون عن أمنهم وحماية أوطانهم، وأن الآخرين يفكرون فقط بمصلحة شعوبهم أو مصالحهم الخاصة. ولكننا حكماً، وبعد كلّ هذه التجارب في لبنان وفلسطين والعراق، ندرك أن مصلحة العرب وحياتهم وسلامة أوطانهم لا تدخل أبداً في حسابات الربح والخسارة الأمريكية والإسرائيلية ومن يحذو حذوهما.

وعلينا ان ندرك جميعاً اليوم، أن تغييب الأسماء لا يعني تغييب حقائق ووقائع التاريخ، فحذف اسم إسرائيل من لوحة المسؤولية عن الجرائم التي ترتكبها يومياً في فلسطين ولبنان والجولان، لا يعني أن المستقبل لن يحمّل إسرائيل مسؤولية هذه الجرائم، وإن تغاضي الحكومة الأمريكية عن أكبر جريمة ارتكبتها في التاريخ الحديث بحق الشعب العراقي، لا يعني أنها لن تتحمل هذه المسؤولية حين يتمكن العرب من قول كلمتهم واتخاذ الموقف اللائق بشهدائهم وبلدانهم. فكم حاولت الولايات المتحدة إخماد صوت شعوب أمريكا الجنوبية، من خلال دعم الانقلابات الدموية على الحكومات الديمقراطية المنتخبة، وها هي اليوم أمريكا اللاتينية تزهو بديمقراطية حقيقية، خطتها شعوب بلدانها الحرّة والمستقلة. وها هي رئيسة التشيلي ميشيل باشيلي تزور الزنزانة التي سجنت فيها مع والدتها، ولكن من منّا يتذكر السجانين الذين سجنوها وعذبوها؟

وفي المستقبل ورغم كل الجهود المبذولة لتغييب أسماء المجرمين بحق الشعب الفلسطيني واللبناني والعراقي وحق أهلنا في الجولان السوري المحتل، ستصبح زنزانات المقاومين، الذين رفضوا الذلّ والاحتلال، مزاراً لأبناء المستقبل، بينما تنزل أسماء من هادنوا على مصالح بلدانهم وشعوبهم، وغرقوا في «الأنا» المتورمة على حساب الأوطان في غياهب النسيان، لا أحد يسمع بهم ولا أحد يذكرهم ولا من يحزنون. إن الغضب الذي أبداه الرئيس بوش نتيجة بدء اكتشاف العالم حقيقة ما يجري في العراق، هو غضب على فضح الجريمة وانكشافها للرأي العام الأمريكي والعالمي، وليس غضباً على ارتكاب الجريمة ذاتها. والتاريخ زاخر بشواهد الخسارة لكلّ من راهن على سريّة ما يرتكبه، والأجدى طبعاً، أن يراهن المرء على حسن أفعاله، بدلاً من المراهنة على التغطية على سوء الأفعال. وهكذا فإن قتل خمسة وأربعين صحفياً في العراق لم يضمن تغييب الحقيقة، وكم كان الأجدى والأجدر بالإدارة الأمريكية، الإنصات إلى أصوات الحق والعدالة في المنطقة، حتى قبل الحرب على العراق، بدلاً من المراهنة على التذاكي على الآخرين والاعتماد على من لا يجرؤ على مواجهة أو نقل الحقيقة.