العراق: سيرة الفشل.. وجهود الإنقاذ

TT

خلال هذا الشهر تزايدت حالة الارتباك والفوضى التي تحيط بمشروع احتلال العراق، فهل كانت أحداث وتطورات الوضع العراقي منذ اجتياحه سياسة مدروسة، انحرفت عن مسارها، أم هي سلسلة أخطاء أدت إلى فوضى مدمرة، وتآكل للنسيج الاجتماعي، واقتتال داخلي بين أبنائه.

مع تعدد المتغيرات في الواقع العراقي اليومي، وتزايد العوامل المؤثرة في محاولات التكيف مع اختلال الوضع الأمني، لا يمكن التنبؤ بحجم الكارثة التي ستتوقف عندها الحالة العراقية، أو تقديم اجابات معقولة لتفسير ما يحدث. في هذه المرحلة ليس هناك خلاف حول حجم المأزق السياسي، وان المخاوف المتوقعة حول الحروب الداخلية أصبحت واقعا يوميا، منذ أكثر من ثلاث سنوات تتصدر نشرات الأخبار، حتى الرئيس جورج بوش، الذي مع رفضه لفكرة أن أمريكا هزمت في العراق، تحدث هذه الأيام لأول مرة عن «فيتنام عراقية»، وأن الوضع في العراق أصبح يذكر الأمريكان بأيام فيتنام.

كان الرقم الذي كشفت عنه دراسة قام بها فريق من الباحثين الأمريكان والعراقيين، ونشرت نتائجها مجلة «ذي لانسيت» الطبية، 655 ألف قتيل عراقي، وجرح خمسة أضعاف هذا الرقم منذ 2003، لافتا وتناقلته وسائل الإعلام، وبغض النظر عن الجدل حول مصداقيته، إلا أنها محاولة ضرورية لوصف الكارثة رقميا، لواقع يشهد ضحايا يوميا بالعشرات، وبعد مرور هذه السنوات التي تغير فيها المشهد العراقي كليا، وانتقل إلى طور مختلف تماما عن العراق الذي يعرفه الجميع، تزداد الحاجة إلى تطوير الرؤية للأوضاع الجديدة، كما هي، وليس كما يجب أن تكون، والإدراك العربي المتأخر لخطورة ما حدث أدى إلى زيادة كلفة المخاطر وامتدادها إلى دول المنطقة. فبعد مرحلة الصدمة العربية من اسقاط النظام العراقي، تأخر العرب كثيرا في استيعاب حقيقة ما جرى. التجاوب مع ما يتطلبه المتغير الجديد كان خطابيا في تحميل الاحتلال المسؤولية كاملة، والهروب من المسؤولية الذاتية، فقد كان موقف الجامعة العربية، التي تمثل النظام العربي سلبيا ومرتبكا من التغيير في البدايات، ولم تتجاوب مع متطلبات الحدث في لحظته.

وفي مراحل متأخرة ظهرت بعض حالات التفاعل، كاستضافة الجامعة العربية لمؤتمر المصالحة العربية.

ومع تعدد المحاولات الداخلية والخارجية لانتشال العراق، يخرج الوضع عن السيطرة نتيجة عدة متغيرات تحولت مع مرور الوقت إلى جزء فاعل ومؤثر في مكونات الواقع العراقي، بحيث لا يمكن التفكير بحلول دون أخذها في الاعتبار، فقد شجع الاحتلال مختلف العصبيات الطائفية والإثنية للعبث في تركيبة العراق، نتيجة نظام المحاصصة الطائفية والعرقية، وقد كانت الآلية الميدانية لاشعال الفتنة الطائفية هي تفعيل دور الميليشيات، التي تشكلت وفق اعتبارات طائفية وعرقية، وبعضها تشكل لمتطلبات أمريكية أثناء الاعداد لاحتلال العراق. لقد فشل العراقيون وليس الاحتلال فقط في توفير الأمن، نظرا لأن الأجهزة الأمنية الحكومية تحولت في حالات كثيرة إلى ذراع طائفية، فالمالكي الذي دعا مرارا إلى حل الميليشيات يخضع لضغوط كبيرة لوضع حد لعمليات القتل الشيعية ـ السنية، التي مزقت العراق طوال شهور، رغم دعوات الحكومة للميليشيات، التي يرتبط العديد منها بأحزاب مشاركة في الحكومة، لنزع أسلحتها، لكن المالكي يرى: أن الميليشيات لا تطيع الحكومة.. والأحزاب السياسية لها ميليشياتها، وهي جزء من الحكومة وتشارك في العملية السياسية.. والمطلوب من الأحزاب أن تحل الميليشيات.. وأن حل الميليشيات يجب أن يكون من خلال القوى السياسية.

العنف في العراق أضر بجميع الأطراف، بالاحتلال وهو يواجه خسائر كبيرة، وبالمقاومة التي لن يشرفها هذا العبث والتقاتل بين أبناء المجتمع الواحد، وأدى إلى فتنة طائفية شاملة، وحرب أهلية حيث العصابات الشيعية والسنية، والجهاديون والبعثيون والأكراد. والمشكل أن هذه العصابات، التي تستفيد من اختلال الحالة الأمنية، لا تشتغل في الجريمة الجنائية فقط بحيث تزول مع زوال مسبباتها، وإنما توظف لأهداف سياسية وفرض للأمر الواقع، وانتشر القتل من أجل القتل والقتل بسبب الهوية الدينية.

استمرت سيرة الفشل العراقي قبل الاحتلال وبعده، فالعجز في بناء الدولة الوطنية وازاحة الاستبداد من الداخل كان عاملا أساسيا في التدخل الأجنبي، فهل كان الاحتلال هو الذي اخترع الطوائف المتحاربة، أم النظام الديكتاتوري السابق، الذي اختزل المجتمع قهريا تحت مظلة حزب حاكم وحيد، هيآ الشروط الأولية لولادة العنف الطائفي. أيا كانت الاجابة فالعراق اليوم ليس أمام خيارات سيئة فقط، وإنما حتى هذه الخيارات تواجه صعوبات متعددة، فلا العودة للعراق قبل الاحتلال يبدو ممكنا، ولا الفيدرالية تبدو سهلة، ولا تصحيح الأخطاء التي ارتكبها الاحتلال منذ البداية يمكن التفكير بها، خروج المحتل من دون تحقيق لقدر معقول من الاستقرار سيزيد من حدة المخاطر في المنطقة، خاصة أن العامل الديموغرافي المذهبي لا ينحصر في العراق فقط.

الفتنة الطائفية من المحقق عادة أن بدايتها ناشئة عن أخطاء في التصور الفكري والديني في ثقافة المجتمعات، وأن المجتمع المتعدد الطوائف مهما كان تاريخيا في حالة انسجام، إلا أن بعض المتغيرات واختلال قوى المجتمع في الحروب قد تعيد بعث الحساسيات والعداءات القديمة، فتبدو الحاجة إلى التذكير والتأكيد على ثوابت تبدو بدهية لمن يعيش خارج المجتمع المحتقن برؤى وصراعات طائفية، لهذا تبدو أهمية التوقيع على وثيقة مكة من كبار علماء دين من السنة والشيعة في العراق يوم الجمعة الماضية، بمبادرة من منظمة المؤتمر الاسلامي، التي تستهدف حقن دماء المسلمين في العراق، وهي مبادرة ترى المنظمة: أنها تقتصر على جانب النزاع الطائفي لاخماد جمرته، باعتبار ان هذا النزاع، بما ينطوي عليه من خلفيات دينية، يكون عادة اكثر انواع النزاعات دموية وعنفا، وان الامر لا يتعلق بمبادرة للمصالحة بين العراقيين، بل يتعلق الامر بوقف الاقتتال المذهبي بين العراقيين، وهذه المبادرة ليست مؤتمرا ولا ندوة فمداها الموضوعي يهدف الى وقف الاقتتال المذهبي، وخلفيتها الدينية مؤسسة على نظرة اسلامية موحدة، وأن القضية ليست مؤتمر مصالحة وانما هي مناسبة خاصة تختلف عما سواها، لاعلان هذه الثوابت الدينية الجامعة على السنة كبار المرجعيات الدينية وعلماء المسلمين. هذا اللقاء الذي جاء في أجواء روحانية، وهو كما هو معلن، ليس له علاقة مباشرة بالميدان السياسي، لكن أهميته الفكرية ستؤثر على الواقع الحالي والمستقبلي، فقيام هؤلاء العلماء وهذه المرجعيات على تقديم رؤاهم وتصوراتهم الدينية على شكل وثيقة تاريخية، مع الموقف الإيجابي من خطباء المنبر يوم الجمعة الماضية في العراق حول هذه الوثيقة، قد يعزز بصورة غير مباشرة جميع جهود ومحاولات إنقاذ العراق.