من الأصولية والعلمانية إلى التغريب.. متاهة الأخطاء المشتركة!

TT

أعلم أن الحديث عن الأصولية الإسلامية حديث شائك، لكن تقديري أنه لا يوجد مبرر للعنف والتعصب من جانب هؤلاء الذين نطلق عليهم اسم الاصوليين المسلمين. فلقد شاهدت، لعشرين سنة مقتل الكثير من المثقفين العلمانيين الاتراك لمجرد انهم، مثل فان غوخ، دافعوا عن حرية التعبير ضد القهر الديني. وبالرغم من انني أعد نفسي، سياسيا، في خندق الذين يحتقرونهم، وبالرغم من انهم اعدائي، وأن مثل اسامة بن لادن خطر على العالم، فقد دخلت عبر قصتي «الثلج» في عالمهم المتشابك، لأنني اردت فهم ما الذي يدور في ادمغتهم ولماذا يشعرون بمثل هذا الغضب..؟

وتقديري أيضا أن الفرد منهم وبصفة اساسية شخص لا يفهم حرية التعبير، وليس ذلك فحسب، وتلك هي المصيبة ـ بل أنه يشعر بالإساءة اليه من أي عمل ادبي لا يتحدث باللغة الوحيدة التي يفهمها، فيعتبره ماسا بالنقاء الذي يتخيله. ومن هنا فهو شخص يشعر بحرية تجاه ممارسة القتل كرد.

ولي أن أقول أيضا أن شخص الأصولي في الغالب الأعم يريد ايضا التعبير عن غضب الاقليات الاسلامية، ولا سيما تلك التي وقعت تحت سيطرة المساجد والشبكات الاصولية، مثل المهاجرين في اوروبا، فتجدهم بسوء المعاملة والاحتقار وعدم تمثيلهم، وهم في النهاية فقراء وسط مجتمع يتمتع بالثروة وظروف حياتهم بائسة.

ومن هنا فإحساسي هو ان الاسلام، في معظم الحالات، هو حجة. والغضب هو وطني في الواقع، وناتج عن مشاعر معادية للغرب. وهناك مقاومة حادة ضد الدولة والثقافة المضيفة التي لا تراهم بحسابهم. ويشعرون بالتجاهل، كما لو انهم اختفوا، أو لم يعدلهم وزن.

ففي تركيا يرى الشخص مشاعر وطنية معادية للغرب، تعبر في بعض الاحيان عن نفسها بالتعاطف مع الاسلام الاصولي، بل والإرهاب. ولكن في معظم الحالات، هو تعبير عن مشاعر وطنية جماعية تقاوم الفجوة في الثروة بين بلادنا والدول الثرية في الغرب.

يتسم نايبول بنفاذ البصيرة للغاية بخصوص الطبقات المتوسطة في الدول الفقيرة في مرحلة ما بعد الاستعمار وهو محق لدرجة معينة. ولكن الغرب بقيادة الولايات المتحدة ارتكب عدة اخطاء ـ مثل غزو العراق والفظائع التي ارتكبت في هذه الحرب واستمرار تأييده للاحتلال المتشدد لفلسطين ـ الذي يغضب العالم كله، وليس العالم الاسلامي فحسب. ويجب مواجهة هذه التصرفات العدوانية المثيرة للغضب وغيرها من السياسات. فالمشاكل ليست هي اخطاء الجماهير الفقيرة والمشوشة وغير السعيدة والبائسة، فيما لا تمثل والوطنية تمثيلا كافيا، وكذلك التوجهات الغربية ايضا.

من هنا يجب وضع خط فاصل وواضح في المسؤولية بين الارهابيين المتطرفين، والحضارة الاسلامية التي يعتقد الارهابي انه ينتمي اليها، وهو خط مشوش في نظر الاعلام. فبعد مقتل فان جوخ في هولندا، تعرضت الكثير من المدارس والمساجد التركية الى هجمات واشعلت النيران في بعضها. اما في تركيا فلم يعتبر العلمانيون الليبراليون ذلك تعبيرا عن الحضارة المسيحية. لا: فقد قلنا انهم عنصريون ومتطرفون قوميون في اوروبا. الصحف الاصولية هنا في تركيا هي التي قالت ان المسيحية ملامة. ولكن في الغرب اصبح من السهل في الاوساط الاعلامية الاسلامية تحميل الاسلام المسؤولية. وفي الواقع، لا يوجد فرق بين حرق مدرسة او جامع وقتل فان جوخ..

أما وجهة نظر اويانا فالتشي عن الاسلام، مثلا، فهي ليست معتمدة على الواقع أو مستندة اليه، لأنها صورة خيالية لدين ما لا يوجد في الواقع. وبالنسبة لتلك الدول التي يعيش المهاجرون المسلمون بها منذ اكثر من جيلين او ثلاثة او اربعة، ففشل الاندماج يرجع بصفة اساسية الى سياسات تلك الدول، وليس بالطبع تعبير عن فشل الاسلام او تركيا او المغرب، ولكن المانيا وهولندا وفرنسا ايضا. ومع الاحترام للمهاجرين الجدد، ولكن التعصب المحافظ أيضا هو مشكلة.

أما على صعيد التسامح وبأخذه من بعض بواباته الغيرة نوعا، فيجب أن تتسامح الحضارة الاسلامية مع المثليين ومع حقوق المرأة وحقوق الاقليات، وهي مشكلة نواجهها في تركيا اليوم. ولكن تلك اشياء يجب تحقيقها عبر المجتمع المدني، وعن طريق الليبراليين والديموقراطيين والعلمانيين داخل المجتمعات الاسلامية بدلا من القنابل الاميركية او المفكرين القوميين او التبسيطيين الذين يتمتعون بإصدار احكام خيالية حول الحضارات.

أما في روايتي «الجليد»، فالإشارات فيها مثلا الى سخرية الاسلاميين في مدينة كارز من (كا،) شاعر اسطنبول الذي يعيش في فرانكفورت، بسبب نظرته الى اهله ورغبته في ان يصبح اوروبيا. فموقفهم ليس صائبا، وهذه ليست نظرتي، فتركيا ظلت تبذل على مدى يزيد على مائة عام مجهودات هائلة لان تصبح غربية. ثم إن هؤلاء المحافظين، سواء كانوا اسلاميين او مناوئين للغرب يمقتون التغيير، فيما يطلقون علينا علمانيين ليبراليين و«اوروبيين زائفين» ومقلدين. ولكني لا اقبل ذلك ايضا، لأن عملية التغريب والتحديث اجرتها تركيا على طريقتها ـ خارج اوروبا. ونحن الآن قطعنا فيها شوطا بعيدا.

النقطة الاخرى في روايتي تتلخص في ان الناس يشعرون بالاستياء ازاء السير في طريق التغريب. لا يجب ان نقتلهم او نقصفهم. وأن لا نشعر تجاههم بالازدراء وننعتهم بالغباء. يجب ان نتفهم مصدر الاستياء والغضب ويجب ايضا ان يكون لدينا شيء من الرأفة تجاه مخاوفهم وشعورهم بعدم الطمأنينة.

أما على صعيد الأسئلة الممتدة والمشرعة حول العولمة، فقولي هو أنه إذا اردنا عولمة العالم، فيجب ان نفعل ذلك مع الاعتراف بأنها مهمة عسيرة. ولا يمكن فقط وصف الرافضين بأنهم اغبياء، ومعهم الذين يتعاملون معها بفهم تبسيطي تجاه الجزء الذي نقطنه في هذا العالم. يجب ان يكون هناك تمييز بين محاولة تحريك الحضارة الى الأمام وبين ان يكون للشخص موقف مسيء تجاه الآخرين، حتى اذا كانوا غاضبين ولا يراعون حساسيات الآخرين في أحاديثهم.

ومن هنا، وفي هذا السياق، فاذا ارادت تركيا ان تصبح جزءا من اوروبا، خلال فترة 15 عاما تقريبا، فيجب ان تتغير جذريا. ولكن اوروبا يجب ان تتغير ايضا. يجب ان تعيد اوروبا استكشاف نفسها وإعادة التفكير في نفسها كمجتمع اكثر ديمقراطية وتعددية دينية ليس قائما على اساس الدين وقصص التاريخ الخيالية، وإنما على رؤية متسامحة مناوئة للقومية.

ولنا أن نتذكر هنا أنه كان هناك كثير من السياسيين الشموليين عبر السنوات حاولوا فرض روح واحدة او طريقة حياة ووجود واحدة، فأراد بعضهم فرض علمانية غربية بوسائل عسكرية، فيما أراد آخرون أن يظلوا الى الأبد تقليديين واسلاميين. هذا التوجه دمر الديمقراطية في تركيا وكان وراء وقوع الانقلابات خلال عقد الثمانينات. ودعوني أقول هنا ان وجود روحين امر ايجابي. ومن هنا يجب ان نتفهم مسألة انه يمكن ان يكون للدولة روحان تماما كما للبشر. الأرواح موجودة باستمرار في الحوار مع بعضنا البعض، وان يكون لدينا ديمقراطية فذلك يعني بالضبط ان يكون هناك حوار بين هذه الأرواح.

ولذلك فأنا في عداد من يرى أن فكرة عدم توافق الاسلام مع الحداثة او العلمانية حجة قائمة على المنطق الاصولي. ويجب ان يتوقف المفكرون الليبراليون والديمقراطيون عن إطلاق الملاحظات المتعجلة وغير الدقيقة كلما ظهرت مشكلة جديدة تسببوا هم في غالبيتها، فتاريخ الاسلام تحت ظل الامبراطورية العثمانية كان مزيجا من الكتاب، وما كان يحدث في التاريخ وفي العالم. الاسلام يتبع لهذا العالم، وظل على مدى فترة طويلة متأثرا بوجود اوروبا، وليس هناك اسلام صرف كما يتخيله الاصوليون.

انظروا ما حدث الآن في تركيا. كان لدينا حزب اصولي تحول الآن الى حزب غربي تقريبا، مهمته التاريخية ادخال تركيا الحظيرة الاوروبية فيما يؤيده الشارع. هذه القضية تشغل اذهان غالبية الأتراك اليوم.

من امتع الأشياء لان يكون الشخص كاتبا في تركيا هذه الأيام، ان كل الصور المثيرة للمفارقة متوفرة. من الممتع مراقبة هذه الصور والكتابة عنها، خاصة أن كلا جانبيها مثير للحرج: سياسي اسلامي مع ملكة جمال، او ملكة الجمال يؤيدها رئيس وزراء مسلم، هذا مشهد غير مألوف.

تعكس هذه الصورة الكثير حول مواضع الأشياء، وأتوقع ان يكون هناك المزيد من الجدل والحوار، وهذا سيجعلني مسرورا، لأنه وعندما نصبح قادرين على الابتسامة تجاه هذه المفارقات سيذوب التوتر يومذاك.

* الروائي التركي الحائز جائزة نوبل للأدب لهذا العام، والمقال مأخوذ من الحوار الذي أجرته معه خدمة غلوبال فيو بوينت (خاص بـ«الشرق الأوسط»)