حتى لا نكون كالهنود الحمر.. أو ضحايا الإبادة

TT

يبدو الاضطراب واضحا في ردود الفعل الأمريكية إزاء الوضع في العراق الذي حفرت واشنطن على يد المحافظين الى المتطرفين حُفرته، وأخذت تنزلق اليها ثم فيها، الى أن أدركت ان عليها مراجعة نفسها لعلها تخفف من هزيمتها المتوقعة في انتخابات التجديد لمجلسي الكونجرس في نوفمبر القادم، وتقلل من مشاعر الكراهية التي يجلبها عليها ذلك الوضع، مضافا اليه نشاطها في أفغانستان بعد ان كانت تصورت أنها أنهت المشكلة، وكذلك دورها في السودان والصومال وقبل هذا وذاك مسؤوليتها مع اسرائيل فى العدوان على الشعب اللبنانى (سواء بتوفير الوقت أو السلاح)، أو على الشعب الفلسطيني الذي ما زال يتعرض للجرائم الاسرائيلية التي تؤجج نيران فتنة كنا نتصور ان كل الزعماء الفلسطينيين أعقل من أن يتماشى بعضهم معها لأسباب لا يمكن أن نتقبلها أو نقتنع بها.

وبدلا من ان يترجم هذا الاضطراب الأمريكي الى ما يحتم من إعادة النظر في مجمل السياسات المتعلقة بالشرق الأوسط، إضافة الى التفكير في حماية الديموقراطية الأمريكية التي كانوا يريدونها نبراسا فانطفأ بريقه على أعتاب قوانين وممارسات تتنافى مع كل القواعد التي تعلمنا أنها أساس أي حكم ديموقراطي، بدلا من ذلك رأينا التركيز على جزئية العراق ـ من دون النظرة الشاملة الضرورية ـ تركيزا فيه من الخلل والاعوجاج أكثر مما فيه من التفكير السليم، فرأينا شبه خطوة الى الأمام تقترن باستمرار العناد الذي يتنافى مع المنطق السليم، ومن ذلك:

فالرئيس بوش أقر بالتشابه بين العنف في العراق وبين معركة TET التي خاضتها الفيتكونج ضد القوات الأمريكية فى فيتنام، والتي كانت نذيرا بهزيمة ما زالت تأثيراتها المادية والنفسية والمعنوية تشكل جرحا غائرا في قلب وعقل كل أمريكي. وفي نفس الوقت فإنه يؤكد انه لن يتخلى عن استراتيجيته مع استعداد لتعديل بعض التكتيكات، وهو كلام لا يتفق مع المنطق والعقل لأن العيب في الاستراتيجية ذاتها (كما أقر كثير من العقلاء من العسكريين والمدنيين، الجمهوريين والديموقراطيين) التي تصورت أو تظاهرت باقتناعها بأن إقصاء النظام السابق ـ بالمخالفة لقواعد الشرعية الدولية ـ سوف يؤدي الى الديموقراطية والرخاء يعمان البلاد بل المنطقة كلها.

ونتيجة لذلك فإن الإدارة الأمريكية ترفض وضع جدول زمني حتى إذا كان طويل الأجل للانسحاب ـ رغم مطالبة غالبية الشعب الأمريكي بذلك ـ بينما تفرض على رئيس الوزراء العراقي العاجز عن السيطرة على أي جزء من البلاد ـ جدولا زمنيا ليحقق الأهداف التي فرضتها عليه بعد أن نشرت الفوضى والعنف وقسمت البلاد تقسيما فعليا ـ حتى إذا لم يكن جغرافيا بعد ـ بين الطوائف التي سوف تستمر في التقاتل رغم اتفاق مكة. كل يريد إما أن يفرض إرادته على الآخرين أو ينفصل عنهم محققا بذلك مخططات تقسيم العراق ـ وليس العراق وحده ـ الى دوليات يسهل السيطرة عليها وعلى مواردها تحقيقا لأحلام امبراطورية يبدو أنها لم تتلاش ولحقت بها تطلعات ومخططات اسرائيلية. وهنا أقول لمن ينعون علينا الإشارة إلى مخططات، إن تلك الإشارة لا تعفينا من الأخطاء التي نرتكبها في حق أنفسنا التي تمنعنا من المواجهة الا بالشكوى والصراخ، ولكنها إشارة لها من الأسانيد التاريخية ما يجعل التحوط منها والإصرار على كشفها ليس استسلاما لـ«نظريات المؤامرة» بل إلى حقائق التاريخ التى رأيناها فى أفريقيا وأمريكا اللاتينية والتي تؤكد مقولة «فرق تسد» أو «قسم تسد».

وأعرف أن في هذا الكلام كثيرا مما هو معاد، ولكن ما الحيلة ما دام التاريخ يعيد نفسه ـ ليس كما يقال في شكل مأساة والمرة التالية في شكل ملهاة، بل في جميع المرات في شكل مآس تعاني منها الشعوب وتؤدي الى كوارث ومصائب لا تصيب الذين ظلموا خاصة، بل تغرق الجميع في محور من الدماء وتهلكهم في أتون من النيران وتغطيهم بركام آمال تحطمت.

ورغم اصرار الرئيس بوش على عدم تغيير المسار الكارثي ربما تحت تأثير الداهية كسنجر الذي قيل انه كثيرا ما تسلل الى البيت الأبيض حاملا نصائحه المدمرة التي تستند الى نظريات قرون مضت، وأيضا تحت تأثير نائب رئيس ووزير دفاع يبدو أنهما أسيران لأخطاء لا يريدان الإقرار بها، ولا أشير هنا الى وزيرة الخارجية التي يبدو أن ولاءها لرئيسها وتركيز خبرتها على الاتحاد السوفيتي الذي تفكك يمنعانها من تقديم النصح الرشيد.. أقول رغم هذا الإصرار من جانب الرئيس، فانه رأى لأسباب تكتيكية أن تشكل لجنة برئاسة وزير الخارجية المقتدر السابق جيمس بيكر لتقديم مقترحات حول أسلوب الخروج من المأزق. وسوف تنشر اللجنة تقريرها بعد انتخابات نوفمبر، مما قد يشير الى ان الموضوع كله لعبة سياسة لعبور المرحلة الحالية عن طريق رسالتين الأولى موجهة للمتشددين ومفادها ألا تغيير، والثانية لإلهاء المعتدلين بالتلويح بأمل في التغيير، وتصور الرئيس انه بهذه الطريقة قد يرضي الجميع. ولكن ما تسرب من مقترحات بيكر، اضافة الى استمرار تدهور الموقف فى العراق، من شأنه ان يفسد الخطة.

وأنا أعجب من أن كل العقول البشرية والالكترونية في الولايات المتحدة ، التي ما زالت في ما يبدو تبحث عن اجابة للسؤال الذي يشغل بال المجتمع الأمريكي، والذي أنشأت له وزارة الخارجية الأمريكية إدارة خاصة يتولاها شخص يتحدث اللغة العربية بلهجة ولكن مضحكة شكلا ومضمونا، أعجب انه رغم كل ذلك لم يجدوا الإجابة لأنهم يبحثون عنها فى غير موضعها، فالمشكلة ليست في الآخرين بل فيهم، بمعنى أن الآخرين لم يستيقظوا يوما ليقرروا أن يكرهوا الولايات المتحدة، بل إنهم يصحون كل يوم على تصرفات أمريكية تؤدي الى تراكم الغيظ والغضب والإحباط والشك في النوايا، وعلى ضربات يتلقونها موجعة وأحيانا قاتلة، تضاعف من تلك المشاعر وتدفعها الى مسارات ندينها ونتمنى إن أمكن تجنبها، ولكن ذلك يتوقف على ما تفعله واشنطن وليس على الانعكاس لما تفعله عند الآخرين. وليس الحل في تمويل محطات إذاعة أو تلفزيون فاشلة لا يسمعها اغلب الناس إلا لأنها تذيع موسيقى محببة بينما يتجاهلون مضمونها السياسي، ولا الحل في محاولة تجميل صورة الحياة الأمريكية تجميلا ليس دائما واقعيا كما أنه حتى اذا اقتربت الصورة الحقيقية بالنسبة للداخل فانها عندما تعبر البحار والمحيطات تكون أقرب الى وجه المستر هايد من وجه الدكتور جيكل بطل القصة الشهيرة أو من صورة دوريان جراي بطل القصة الأخرى المعروفة. انما الحل الناجح هو ان تدرك الولايات المتحدة حقيقة أن مشكلة فلسطين هي المشكلة الحقيقية بينها وبين العرب، مسؤولين وشعوبا، مسلمين أو مسيحيين، سنة أو شيعة، مشرقيين أو مغربين، لأنها رمز لظلم تنحاز واشنطن في مواجهته إلى الظالم، وعدوان تزود الولايات المتحدة المعتدى فيه بالعون المادي والمعنوي وتشكل درعا يحول دون إدانته الإدانة التي يستحقها من جانب المنظمات الدولية المفروض انها تحمي الشرعية، فاذا بها تدير ظهرها لها وتتعامى عن متطلباتها، بل انها كثيرا ما تلوم المضروب إذا بكى بدلا من أن تلوم الضارب إذا ضرب وفقا لمقولة سعد زغلول المعروفة.

ولو أرادت الولايات المتحدة ان تكسب حقا قلوب الشعوب فعليها ان تبذل مساعي جادة ومنصفة لحل المشكلة الرئيسية التي تسمم آبار التفاهم والتواصل، والتي تفتح أبواب جهنم تصيب نيرانها كل المشاكل الأخرى، وطالما حاولت إسرائيل أن تعدد مشاكل المنطقة، مدعية انها غير مرتبطة بقضية فلسطين، ولأن الواقع يقول ان بقاء تلك البؤرة الملتهبة يسمم كل جسم المنطقة ويعقد كل مشكلة من مشاكلها بدءا من مشاكل البناء الداخلي والديموقراطية الى مشاكل العنف الى كافة المشاكل الأخرى التى حتى اذا لم تكن مرتبطة مباشرة بالقضية الفلسطينية فإنها تتأثر كحقيقة واقعة أو حتى كحجة ـ ببقائها من دون حل عادل ومستقر.

وقد يكون هذا الكلام معادا ومكررا، ولكن التكرار مفيد ازاء محاولات الفصل بين المشاكل وتصور انه يمكن تجزئة الحلول أو ترك جرح ينزف مع الاعتقاد بأن بقية الجسم يستطيع أن يعيش رغم هذا النزيف الذي يصفي دمه الذي يحمل الاوكسيجين الى جميع اجزائه.

وأنا أعتقد أن بعض الرؤساء الأمريكيين ـ وبينهم الرئيس كلنتون ومن قبله الرئيس كارتر قد أدركوا الى درجة ما هذه الحقيقة، وحاولوا التصرف على أساس ذلك الفهم، ولكنهم لم يستطيعوا (ربما لقصور فيهم أو ربما تحت تأثير قوى شريرة) أن يترجموا اقتناعهم إلى تحرك ملموس على الطريقة الصحيحة. وحتى اذا كنا قليلي الأمل فى أن تجد الإدارة الحالية الخريطة الحقيقية لتوصلها الى ما تدعي أنها تريده من صداقة ـ لا تبعية ـ فاننا نثق أنه اذا ألح العرب مجتمعين متجاوزين ـ كما ذكرت اكثر من مرة ـ خلافاتهم التي تهون امام هول ما ينتظرهم جميعا اذا سارت الأمور كما هي سائرة ـ فإنه يمكن لهم أن يكونوا مؤثرين لأنهم يملكون من الوسائل التي تمكنهم في عالم الاعتماد المتبادل ويمكنهم تعظيم مالا يملكون من الوسائل ليست قطعا بعيدا عن متناول أيديهم اذا طوروا أنفسهم ـ ليس لأن أحدا يطلب منهم ذلك ـ بل لأن ذلك يوفر لهم من عناصر القوة ما لا يمنع الضرر فحسب، بل يقرب الهدف وهو بناء مستقبل آمن مستقر راسخ يستطيعون فيه أن يتعاملوا مع العالم على قدم المساواة من دون حاجة الى المواجهة أو الرضوخ.

قد يبدو هذا الكلام عاطفيا يتصور البعض أن فيه من الحماس أكثر مما فيه من واقعية، ولكني أعتقد أنه ليس بعيدا عن الممكن، وهو على أية حال المطلوب حتى لا نكون كالهنود الحمر أو كالأجناس التي تعرضت للإبادة بالقتل البطيء عن طريق حرمانهم من كل ما في الحياة يستحق الحياة من أجله.