عراق الغد.. الحد الأدنى من التوافقية السياسية

TT

من يتابع ما يطرح من تحليلات سياسية وهي تحاول فهم القضايا الكبرى التي باتت تؤرق العالم وتقض مضجعه، وعلى رأسها مأساة العراق، يخرج بملاحظة مفادها، أن ثمة فجوة كبيرة بين تداعيات الأحداث ومنطقها التراكمي، وبين الاستجابة لتلك الأحداث ومسايرتها بشكل يتزامن وحجم الإشكاليات الجديدة التي تطرحها.. فالجميع ما زالوا يتخندقون حول الموقف من الحرب الأمريكية في العراق، وعن المبررات التي سيقت للحرب، في حين أن الواقع العراقي بات يطرح قضايا تجاوزت سؤال البداية.. فالعراق اليوم يعيش قلق النهاية وليس مشروعية البداية في ظل مخاطر تقسيمه، على خلفية حدة الصراعات الطائفية، وحالة «التشظي» في المواقف والرهانات والولاءات والمصالح، التي تعيشها الكيانات السياسية العراقية، والتي لم يحفزها الإجماع على أهمية وضرورة التغيير في الفترة القريبة الماضية. وقد أنجز الدبلوماسي الأمريكي بيتر غاليريث كتاباً يطرح إشكالية الأسئلة الجديدة التي يلقي بها الواقع العراقي الجديد، والكتاب بعنوان «نهاية العراق»، والكاتب له خبرة طويلة في كثير من الدول، التي دخلت نفق التقسيم والتجزئة، خاصة يوغسلافيا، حيث يرى أن المشكلة بدأت في العراق مبكراً، منذ الإعداد السيئ من قبل الولايات المتحدة، للتصدي لموجات الفوضى، التي سادت في أعقاب الغزو، كما أن حل المؤسسات العراقية السابقة، التي تم التعامل معها على أنها ذات صبغة بعثية خالصة وقاتمة، أفضى إلى انقسام العراق تلقائياً إلى مناطق ثلاث، هي المنطقة السنية في الوسط والشمال الكردي والجنوب الشيعي. ومع ما فعلته القوات الأمريكية، التي كان بإمكانها إزاحة الطاغية، من دون الاندفاع في حل المؤسسات بشكل خلف فراغاً سلطوياً ضخماً، تصبح كل محاولات إعادة التأهيل بعده ضرباً من الحرث في الماء، إضافة إلى تساهل القوات الأمريكية إزاء أعمال النهب في بداية غزوهم للعراق، الذي كلّف الدولة العراقية مليارات الدولارات. وتلك ملاحظات ذكية من المؤلف، إذا أخذنا في الاعتبار أن ذلك الاندفاع ساهم في إعادة فرز الداخل العراقي، على أساس طائفي وإثني وعرقي، يلبي نوعاً من الأمان المزيف تجاه حالات الفوضى العارمة.

والمشكلة من وجهة نظري الآن، تكمن في إعادة تكرار خطأ البداية بخطأ آخر لا يقل فداحة، وهو تهيئة الرأي العام العالمي لقبول تقسيم العراق إلى دويلات. وهذا الاتجاه يمثله بشكل كبير هنري كيسنجر، الذي يعد في مقدمة مستشاري الرئيس الأمريكي. مثل هذه التهيئة تدعم وجهة النظر القائلة بخطأ استراتيجية الإدارة الأمريكية في التعامل مع الانقسامات العرقية والدينية في العراق، أو على الأقل سوء تقييم لعمقها وسطوتها في بقاء دوامة الفوضى والعنف. فبناء مؤسسات وطنية في ظل هذه الظروف، كما يؤكد لاحقاً غالبريث، يحكم عليها بالعقم والفشل في ظل حالة اللادولة.

وإذا كان المؤلف ينقل عن أحد أعضاء لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس تشاؤمه الشديد، حيث يعتقد أن حرب الأمريكيين المفتوحة قد تدوم مائة عام، في ظل الإخفاقات اليومية تجاه وقف المجازر الإرهابية أو الطائفية، فإنه يمكن القول إن مفاتيح الأزمة قد تكون بيد دول الجوار لإيجاد ميثاق شرف بين القوى السياسية العراقية. وإذا كان مؤتمر مكة وثبة خلاقة على مستوى الأزمة الطائفية، فإن ثمة حاجة ملحة لخطوات نوعية على صعيد المصالح السياسية المختلفة، أشبه ما تكون بوثيقة الطائف التي صيغت للحالة اللبنانية، أي (طائف عراقي).

صحيح أن تعقيد الحالة العراقية من الصعوبة بمكان، لكن الجرائم البشعة اليومية وتأثيراتها على خارج العراق في شكل مواقف وتحيزات، قد يجبر الأطراف المتنازعة على تقديم تنازلات من شأنها إيجاد حالة توافق عراقي، يتم تأسيسها على حالة توافق إقليمي.. فمن شأن ذلك الحد الأدنى من ذلك التوافق أن يصنع شيئاً في ظل قتامة المشهد وضبابية المستقبل!

[email protected]