مهد الدولة المركزية نموذج للتقسيم

TT

بعد جيمس بيكر، وزيرة خارجية بريطانيا تتحدث عن تقسيم العراق. وكنا نشكو في الماضي من ان الاميركيين لا يعرفون شيئاً عن المنطقة ولم يعيشوا فيها، ولذلك يجب ان نتكل على البريطانيين لكي يشرحوا لهم شيئاً من تاريخ الشعوب العربية. طبعاً تغير رأينا في «الخبرة» البريطانية قبل تصريح الوزيرة الكريمة بزمن، اذ بدلا من ان ينصح توني بلير حليفه الاول بعدم الذهاب الى العراق، سار خلفه.

المفارقة التاريخية في الكلام عن تقسيم العراق الى ثلاث دول او كيانات كما يقال، ان اول حكومة مركزية على وجه الارض ولدت في العراق في الزمن السومري. واول خروج مدون من زمن القبيلة النقالة الى مرحلة المدينة – الدولة كان في سومر، وكان عدد سكان المدينة الاولى 26 الف نسمة ومساحتها نحو 50 الف متر مربع. وقبل ذلك كان الانسان البدائي صياداً يعيش ضمن مجموعات لا تزيد على 25 شخصاً. ومع «الحكم المركزي» نشأ نوع من الادارة والتعاون وتحصيل الضرائب واقامة الحرس.

حدث ذلك منذ نحو ستة آلاف عام. وفي سومر ايضاً بدأ نوع من الحكم والوراثة! ولكن هناك ايضاً بدأت احاطة الحاكم «بالتأليه». وهناك ولدت فكرة الفوز بنسبة 100% من الاصوات، سواء اقترعت الناس او لم تقترع. ومنها انتقلت ثقافة «الحاكم الإله» الى انحاء الشرق الاوسط، في فارس وغيرها. وعندما جاء غزاة مثل الاسكندر وقيصر روما طابت لهم الفكرة فأعادوها معهم الى الغرب. اي ثقافة ولدت ايضاً في اور؟ ثقافة الحروب والجيوش. وقد قامت بعد ذلك دول صغيرة شيئاً فشيئاً فقامت معها «العلاقات الدولية» او العلاقة بين الدول وتدبير قواعدها واصولها منعاً للاحتكاك ودفعا نحو التعاون. اذن، الدولة الاولى قامت في ما بين النهرين، ثم قامت الدولة المصرية على النيل. ولكن الاستعمار البريطاني ترك في اذهاننا ان العراق شيء لم يكن له وجود، اخترعه ونستون تشرشل. وقبل ذلك كان اجزاء مجزأة ومتفرقة ضمن الامبراطورية العثمانية.

ولعل العراق الذي كان قبل ستة آلاف سنة نموذج الدولة المركزية الاولى، سوف يطرح على المنطقة الآن كنموذج للدولة التي من الافضل لشعوبها ان تقسم الى طوائف ومذاهب واعراق. وبذلك لا تعود التعددية الهائلة والمتراكمة ثروة بشرية، بل عبء بشري قابل للاحتراق في كل لحظة وغير قابل للحياة ابدا. ولا شك في ان المستر بيكر والمس بيكيت يقدمان لما هو آت. ربما ليس في العراق فقط، بل في ما اسمته المس رايس «الشرق الاوسط الجديد». وقبل ضرب العراق بقليل كان سلفها الجنرال كولن باول قد قال بكل بساطة وكل صراحة ان بلاده سوف تعمل من «اجل تغيير خريطة الشرق الاوسط». وليس هناك نقطة انطلاق افضل من العراق: مهد الدولة المركزية يصبح مهد الدول الاتحادية.