لندن: حين تعاقب الحكومة رسل المعلومات!

TT

يحكى ان ملكا لم تعرف عنه حكمة، طلب من المنجمين تفسير رؤياه بتساقط اسنانه واحدة تلو الأخرى، حتى لم يبق في فمه الا واحدة فقط. وعندما فسر منجم شاب الحلم بأن أفراد أسرة الملك سيموتون متتابعين ويتركونه وحيدا أمر بضرب عنقه، وبينما هرب بقية المنجمين، ذهب اكثرهم دهاء ليخبر الملك بالتفسير الأدق، وهو ان جلالته سيكون اطول افراد اسرته عمرا، حاصلا بذلك على مكافأة سخية.

تذكرت الحكاية، بعد تهديد مسؤولي وزارة الدفاع في لندن شبكة اخبار التلفزيون المستقلة ITV بمنع مصوريها من مسارح العمليات في بلاد مثل العراق وأفغانستان، بعد بثهم تقارير من مستشفيات الميدان، بعد أن مزجوها بمقابلات مع أسر الجنود المصابين، ومن عنابر مستشفيات وزارة الصحة العامة، حيث الجنود انفسهم يتلقون العلاج بجانب المدنيين. وقد تعرض جندي مصاب للأهانة والتهديدات من اسلامي راديكالي في عنبر مفتوح في مستشفى مدني لأن الأخير غاضب من سياسة الحكومة البريطانية في العراق.

ومثل تفسير الراديكاليين المتأسلمين زورا لعمل فني بأنه مؤامرة ضد الاسلام فإن دكاترة الدعايةSpin Doctors في حكومة توني بلير ـ التي اقحمت على التقاليد البريطانية الصحفية اسلوب التعامل ألامريكي مع الصحافة ـ اعتبروا تقارير «اي.تي.في» مؤامرة ضد الحكومة يجب التعامل معها بحكمة الملك ذي السن الواحدة، فكان أن اتهم الـSpin doctors «اي.تي.في» بعدم الدقة والانتقائية، وتطفلها على خصوصيات جنود جرحى اثناء فترة العلاج في المستشفيات، فيما الجنود المحاربون في ارض بعيدة ينظرون لصحفي وجدوه بينهم صدفة، كصلة بالوطن يستغلونها لمعرفة الاخبار، او للشكوى من نقصان الغذاء او رداءة المعدات، بالمقارنة بالرفاهية التي يتمتع بها الجنود الأمريكيين.

حكومة بلير تقلد الأسلوب الامريكي باستضافة الصحفيين ضمن الوحدات Embedded Journalists ورغم وجود الصحفي داخل المعارك، الا انه يفقد بعد المسافة النقدية لنظرة أكثر اتساعا. وهل سيجامل من يعرضون انفسهم للخطر لحمايته، مضحيا بالموضوعية؟ او ينتقد سلبياتهم ويشعر بعدها بالذنب؟

وانزعج دكاترة الدعاية من «تسلل» فريق تصوير من «اي.تي.في» الى الخطوط الأمامية ولقاء الجنود البريطانيين في أفغانستان، من دون المرور بالقنوات البيروقراطية في لندن، حيث يركبون صنابير للتحكم في مصادر الاخبار.

فدكاترة الدعايةSpin doctors مدربون لصرف انتباه الصحفي عما يبحث عنه بتدبير اثارة جانبية؛ واذا لم ينجحوا، يحاولون تخويفه من خطر «العدو» ويلصقون به مرافق كقطعة «لبان» [علكة؟] علقت بحذائه. اما الجنود الشجعان فيفتقرون لدهاء الساسة ومكرهم، فيستطيع الصحفي، في دقائق معدودة، ان يحصل من الجندي على فيضان معلومات.

اختلاف اهداف الصحفيين عن اجندة الساسة تضعهم في موقف لا يحسدون عليه، فيعرضهم لاتهامات بعدم الوطنية او تعريض الجيش للخطر؛ والخطر الوحيد هو احراج دكتور الدعاية امام مخدوميه من الساسة الذين يفضلون تفسير المنجم «الداهية» على تفسير المنجم الصريح لبقاء سن واحد في الفم.

الصحفي من المدرسة الانجليزية التقليدية، اهدافه الأمانة الصحفية والدقة، وتغطية كل جوانب الخبر؛ وهو مدرب لسنوات طويلة من الدقة والتنقيب تدفعه الى متابعة شكوى الجنود في مسرح العمليات. ويكمل المراسل ذلك بمعلومات من اقارب واسر الجنود، خاصة وانهم يشترون المعدات والملابس وعلب الطعام المحفوظ من ميزانيتهم الخاصة من السوق، ويرسلونها مباشرة لـ«الأولاد» على الجبهة، ومتوسط سنهم ما بين الـ18 و22 عاما. والصحفي المسؤول يخفي الأسم الحقيقي للجنود، حتى لا يعاقبهم الرؤساء.

انتشار التليفون الموبايل (المحمول) مع الجنود، مكنهم من التقاط الصور والفيديو وارسالها الى الصحفيين عبر الانترنت ليضمنوها في تقاريرهم المصورة.

وبعكس ايام اقتصار الرسالة على الصحافة المكتوبة المحصور قراءتها بين ابناء الطبقة المتوسطة، فإن التقرير التلفزيوني اليوم يقتحم غرف جلوس الأسر من كافة الطبقات، وكلما انخفض المستوى الاجتماعي والاقتصادي للأسرة، ارتفعت عدد ساعات مشاهدة التلفزيون، مما يؤثر سلبا على شعبية الحكومة. فقد عرض تلفزيون «بي.بي.سي» مساء الاربعاء فيلما للمراسل مع قوات الطالبان التي تتحكم في جزء كبير من مقاطعة هيلماند، ليحرج المذيع بعدها وزير القوات المسلحة خاصة بعد اعلان وزارته «انزال هزيمة تكتيكية بالطالبان». ومن هنا فتأثير التلفزيون في غرفة الجلوس يدفع نواب المقاعد الخلفية في الحزب الحاكم، الى المطالبة بسحب الجنود، حتى ولو تملقا للناخب.

ولذا اتهم جيمس كلارك مدير الأخبار في وزارة الحربية البريطانية شبكة اي.تي.في بـ«مزج وترقيع لقطات رخيصة» في تقارير وصفها بالانحياز والأنتقائية، مثبتا اعتقادنا بهوس دكاترة الدعاية في حكومة بلير بالسيطرة على مصادر ومنافذ الأخبار وتصفيتها من اي شيء يعتبرونه سلبيا، وكراهيتهم لاستقلالية المراسل.

والى ذلك فقد اعقبت الوزارة الشكوى برسالة تقول انها لا تسعى الى منع المراسلين من التغطية من العراق وافغانستان، أو مقابلة «المتحدثين الرسميين من الوزارة» في لندن او في مسرح العمليات. وتلك لغة بيروقراطية انجليزية مهذبة، تعني ان الوزارة تطلب من الصحفيين الحصول على المعلومات من مصادر رسمية فقط، المتحدثين الرسميين، وعدم مخاطبة الجنود مباشرة، وهذا ما لا يرضى به اي صحفي يحترم التزامه المهني ومشاهديه وقراءه، وقد اشترطت الوزارة تلقى «اجابات مرضية عن الأسالة التي اثيرت» وتقصد الاتهامات. ويعيد هذا التوتر للذاكرة المعركة بين «بي.بي.سي» ورقم 10 داوننج ستريت قبل عامين، حول تقرير اندرو جيليجان المحرر العسكري السابق لـ«بي.بي.سي»، عن اتهام مصدر استخباراتي لمدير دعاية بلير السابق، المستر كامبل، بالعبث بتقارير المخابرات كي تقنع الحكومة البرلمان بتهديد اسلحة صدام حسين البيولوجية (والتي لم يعثر عليها ابدا)، فيصوت للحرب. ومعلوم هنا أن الأزمة قادت لاستقالة جيليجان ومدير «بي.بي.سي»، «جريج دايك»، وكامبل نفسه، بعد انتحار عالم الحرب البيولوجية دافيد كيللى، بعد تسريب وزارة الدفاع اسمه للصحافة كمصدر لمعلومات جيليجان.

والشاهد هنا أن اشباح ادارة الحكومة لمعلومات حرب العراق ستقض مضاجعها لسنوات قادمة. فقد تعرضت قيادة الجيش البريطاني لانتقادات حادة من الصحافة عقب تحقيق لجنة قضائية هذه الشهر في ظروف مصرع تيري لويد، وهو من اقدم صحفيي «اي.تي.في» وأكثرهم، برصاص الجيش الامريكي في الأيام الاولى من حرب العراق في مارس 2003، وكان قد ذهب بسيارته والمصور عبر الحدود الكويتية مستقلا عن الجيش.

ففي شهادته امام لجنة التحقيق، اتهم ستيوارت بيرفيس المدير التنفيذي للشبكة وزارة الحربية بإخفاء معلومات تعرفها عن لجنة التحقيق في ظروف قتل لويد، مضيفا انه لولا العثور على شهود عيان عراقيين للحادثتين ـ اطلاق العراقيين النار على سيارة لويد وزميله، ثم اطلاق المارينيز الامريكيين النار على سيارة نقل اسعاف مرتجلة تنقله للمستشفى ـ لما تمكن أحد من معرفة الظروف المحيطة بالمأساة.

وقد أيد السير مينزيس كامبل زعيم الأحرار المعارض في مجلس العموم، طلب اسرة لويد من مكتب المدعي العام البريطاني، تقديم طلب للبنتاجون باستدعاء الجنود المسؤولين وتقديمهم للمحاكمة.

الدرس المهم للصحفيين اليوم هو تجاهل ضغوط الحكومة، حتى ولو هددونا بمنع المعلومات عنا، لأن التهديد فارغ، فالسياسي اكثر حاجة الى الصحفي وليس العكس.