هل يتحول الانقسام السياسي إلى صراعٍ شيعي ـ سني في لبنان ؟

TT

كلما اعتقد مشاهدو التلفزيون في لبنان أنّ هذا التصريح التوتيريَّ أو ذاك، هو ذروةُ ما بلغه الانقسام السياسي، فاجأهم أحد مسؤولي حزب الله، أو التيار الوطني الحر(الجنرال عون) أو أحد أنصار سورية بتصريحٍ أكثر حِدَّةً وتطرفاً. وآخِرُ الآراء في السيناريوهات المحتملة نحصُرُها في ثلاثة: الأول، أن يتمكن تيار 14 آذار(مارس)، والرئيس السنيورة بالإدارة الحكيمة والاستيعابية في الداخل، وبالدعم العربي والدولي، من الصمود بالحكومة وفي الحكومة، لحين مؤتمر باريس ـ 3، وإقرار المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وربما حتى الدخول الحقيقي في معركة اختيار رئيس جديد للجمهورية في الربيع القادم. وهكذا فإنّ هذا «الصمود» يفترضُ أو يستندُ إلى تحقق أربعة عوامل: استكمال تطبيق القرار رقم 1701؛ بما يعني بالدرجة الأولى اكتمال عديد القوات الدولية بالجنوب اللبناني، وتحسُّن قدرات الجيش اللبناني على الانتشار والتصرف بفعالية. فتنسدّ بذلك إمكانيات التوتير من جانب إسرائيل، ومن جانب حزب الله، وتهدأَ جبهة الجنوب، وتنصرف الدولة وينصرف السكّان بمساعدة الدول العربية لإعادة الإعمار، ونشر جو طبيعي في منطقة الجنوب. العامل الثاني، استمرارُ الضغط العربي والدولي من أجل الاستقرار بلبنان في اتجاهين: اتجاهُ منع التدخلات السورية لزعزعة الأمن، واتجاهُ ذلك الضغط نفسه لمساعدة الحكومة اللبنانية في لملمة الأوضاع الاقتصادية، ودعم الأجهزة الأمنية. والعاملُ الثالث، استتبابُ سياساتٍ لدى الحكومة، وفريق 14 آذار من أجل الاستيعاب وتهدئة التوتُّر. وقد يعني ذلك التفكير جدياً في توسيع الحكومة، ومحاولة فتح نافذة للحوار مع حزب الله بمساعدة الرئيس نبيه بري، وبشكلٍ مباشرٍ أيضاً. وقد يعني ذلك أيضاً الدخول في محادثاتٍ جادَّةٍ مع الجنرال عون ليس بشأن الحكومة فقط؛ بل وبشأن رئاسة الجمهورية. والعاملُ الرابع، الوصول إلى معرفةٍ دقيقةٍ نسبياً بنوايا السوريين والإيرانيين من وراء هذا التوتير، والمدى الذي يمكن أن يصل إليه. وهذا الأمر يمكن أن يتمَّ من خلال أطرافٍ عربية، أو من خلال موفدين، أو الأمرين معاً. وأهميةُ ذلك تكمُنُ في أنه من غير المنطقي أن يكونَ هذا التوتيرُ الفظيعُ، علتُهُ المحكمة الدولية أو مكافأة الجنرال عون بإدخال وزيرين أو ثلاثةٍ له. فالتحقيق الدولي الذي تكاد تمضي عليه سنتان، سيوصلُ حتماً إلى محاكمةٍ دوليةٍ بأيّ صيغةٍ، وعند الضرورة بدون موافقة الحكومة اللبنانية أو مجلس النواب. أما إسقاط الحكومة الحالية، إن لم يدخل وزراء لعون فسوف يعني انتشار الفوضى، واستحالة السير في إعمار الجنوب والضاحية وبعلبك. ولذلك، فقد يكونُ السببُ الحقيقي لهذه الضجة المُثارة، الضغط الدائم والمعرقِل والمقلق بالتوازي مع الصراع الدائر في المنطقة بين الولايات المتحدة وإيران، كما يظهر في فلسطين والعراق ومن حول سورية وأفغانستان.

أما السيناريو الثاني الممكن لتطورات المشهد، فيتمثل في تمكُّن حزب الله وأنصاره من إضعاف الحكومة أو إسقاطِها. يكونُ الإضعافُ بانسحاب وزيري حزب الله منها، وإطلاق النار عليها من الخارج باستمرار، مع ما يعنيه ذلك من تصعيدٍ للتوتر في الجو الشيعي. في حين يتمُّ إسقاطُها بانسحاب وزراء نبيه بري أيضاً منها. وبذلك تستمر الحكومةُ الحاليةُ في تصريف الأعمال، وتعجز عن اتخاذ القرارات، وحتى عن متابعة إنفاذ الإعمار، وعقد مؤتمر باريس ـ 3. ولكي لا تنتشر الفوضى، ويمتنع انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية؛ فقد يتمكن الوسطاء من تشكيل حكومة انتقالية، بما يعنيه ذلك من فرض وصايةٍ من جانب حزب الله على المؤسسات الدستورية، تشبه الوصاية التي كان يمارسُها السوريون. يستمر النظام اللبناني المعروف شكلاً، ويتغير مضمونه؛ بما يترك ذلك من آثارٍ سلبيةٍ على التركيبة السياسية كلِّها؛ وبما يؤدي إلى اندلاع نزاعٍ شيعي/ سني على خلفية التوتُّر الذي يُحدثُهُ الانسحابُ التكتيكي لممثلي الطائفة الشيعية، من المؤسسات الدستورية مؤقتاً. وغنيٌّ عن البيان أنه سيكونُ في هذه الحالة انسحاباً تكتيكياً لتحقيق أهدافٍ هجومية: البلد لا يسير بدوننا، ولن نرضى بالمشاركة إلاّ إذا كنا طرفاً أول! فهم يسيطرون اليومَ على رئاسة الجمهورية، ورئاسة مجلس النواب، ورئاسةُ الحكومة هي العقبةُ الكأداء أمام الوصاية التي نتحدث عنها. بيد أنّ رئاسة الحكومة بيد السنة، وهم ولذلك يعتبر السنّة إضعافها استمراراً لـ«المؤامرة» عليهم منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

والسيناريو الثالث، وهو الأفضل، لكنه الأقلُّ احتمالاً. وهو يتمثل في إمكان حدوث تهدئةٍ بالمنطقة تشمل إيران وسورية، إمّا في التفاوض والصفقة مع الأميركيين، أو مع العرب، أو مع الطرفين. وبذلك لا تعود إيران مضطرةً لاستخدام الورقة اللبنانية مرةً أخرى بعد حرب تموز. بيد أنّ هذا السيناريو بعيد الاحتمال. صحيح أنّ هناك شائعات في السوق السياسية الدولية والإقليمية عن إمكان الوصول إلى تسويةٍ حول العراق بحسب ما تسرَّب من خطة جيمس بيكر: الفيدرالية، مع دورٍ لإيران وسورية. لكنْ من جهةٍ أُخرى، يظلُّ هذا الأمر شائعةً لا ندري مدى صحتها. وهي حتى لو صحت، لا ندري هل تقبل إيران بصفقةٍ جزئية، وهي التي أصرَّت دائماً على التسوية الكاملة والشراكة الكاملة مع الولايات المتحدة في المنطقة. ثم إنّ المحقَّق وليس الشائع، أنَّ الولايات المتحدة والأوروبيين، يميلون إلى فرض عقوباتٍ على إيران بسبب النووي، رغم اعتراض الروس والصينيين. ولا يستطيع الأميركيون التنازل في قضية النووي الآن ـ رغم مصاعبهم في العراق ـ إذ سيحدُثُ لهم في إيران ما حدث مع كوريا الشمالية. وحتى لو فرضنا تسويةً حول العراق وفلسطين مثلاً؛ فإنَّ ذلك يتطلب شهوراً وشهوراً من التفاوُض، ويستدعي بالتالي استمرار إيران في التوتير للضغط باتجاه الصفقة. وقد لا يكونُ ذلك متيسراً إلاّ في لبنان؛ لأنَّ العراق ورقتُهُ محروقة، وفلسطين الأطرافُ فيها جيمعاً مُحرَجون.

ولنتأمل مشهداً آخَرَ في الأيام الماضية أيضاً: زار الرئيس نبيه بري المملكة العربية السعودية، وجرى استقبالُهُ بحفاوةٍ بالغة. وخلال الزيارة، جرى بحثٌ معمَّقٌ في الحلول الممكنة للخروج من المأزق. الرئيس بري عارض علناً ومراراً، تغيير الحكومة اللبنانية الحالية قبل الاتفاق على بديلٍ لها. ولا شكَّ أنه تبادل أفكاراً مع مسؤولي المملكة بشأن ضبط التوتُّر وتهدئة الساحة اللبنانية، لتجنيب لبنان شرور النار المندلعة بالمنطقة، والتي تحمَّلَ عبئاً كبيراً فيها، نتيجة حرب يوليو ـ أغسطس الماضيين. وهو كان على تواصُلٍ مستمرٍ ووثيقٍ عبر الأسابيع الماضية مع سعد الحريري، ومع الرئيس فؤاد السنيورة، ومع حزب الله طبعاً. وقال بري أخيراً، إنه يملك عيديةً للبنانيين، أعلنَ عنها يومَ الأربعاء الماضي. وليس مهماً ما جاء فيها بقدْر أهمية إرادة التهدئة، ودعم المملكة لذلك، وعدم اعتراض حزب الله على الأمر حتى الآن.

إلى جانب «عيدية» الرئيس نبيه بري، هناك الوثيقةُ المهمةُ التي صدرت بمكة المكرمة بشأن استنكار وتحريم سفك الدم الفظيع بالعراق. وقد أيَّدها المفتيان السني والشيعي بلبنان على الفور، وفي اليوم الثالث أيَّدها الإيرانيون أيضاً. ولا ينفكُّ مسؤولو حزب الله، يحذّرون من الفتنة بين السنة والشيعة، منذ أكثر من عام، ويعتبرون أنها خطٌّ أحمر لن يتجاوزوهُ هم من جانبهم، ويسعَون لدى زعماء السنة لعدم التجاوُز أيضاً. وقد اعتبر المفتيان السني والشيعي، في خطبة عيد الفطر، يومي الاثنين والثلاثاء أنّ لبنان انتصر في حرب تموز، بفضل جهاد مقاتلي حزب الله الذين ردُّوا الإسرائيليين على أعقابهم، وبفضل جهود رئيس الحكومة الدبلوماسية. وكأنما إراد المفتيان القول (بغضّ النظر عن دقّة ذلك) إنه لا غالب ولا مغلوب بين الطرفين، ولا ينبغي أن يكون هناك توتُّرٌ بينهما!

لماذا التوتُّر السني ـ الشيعي في لبنان؟ كنتُ قد أكَّدتُ مراراً في مقالاتي بـ«الشرق الأوسط»، كما في أحاديثي مع مسؤولي حزب الله وحركة أمل، أنّ الوضع في لبنان مختلفٌ عنه في العراق تماماً. فالعراقيون يتصارعون ليس على السلطة والثروة وتقاسمهما فقط، بل وعلى مصير العراق: دولة واحدة، أو فيدرالية أو عدة دويلات. والسنة والشيعة في لبنان لا صراعَ بينهم على السلطة، لأنَّ تقاسُمَها مقبولٌ لدى سائر الأطراف، وما قال أحدٌ علناً، بضروة تغييره أو الثورة عليه. ثم إنه لا أحد يقول بتغيير المصير اللبناني، ولا يُهدّدُ بذلك. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، ما كان هناك في تاريخ لبنان الحديث، رغم كثرة النزاعات، نزاعٌ سني ـ شيعي؛ بل كانوا دائماً حلفاء وموحَّدي الصفوف.

لكنّ الواقعَ أنّ هناك توتُّراً فعلاً بين الجمهور السني والجمهور الشيعي. ويرجعُ ذلك لعدة أسباب؛ أولُها اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وشكوك السنة الكبيرة بسورية، وإصرار حزب الله على التحالُف معها، وعلى التصريح بذلك، وعلى اعتباره خياراً استراتيجياً. وقد شاع في الأسابيع الأخيرة، وبعد خطابات الرئيس بشار الأسد ضد المحكمة الدولية، أنّ حزب الله يشاركُهُ هذا الموقف، فازداد إحساسُ السنة بوجود مؤامرةٍ ضدَّهم، حزبُ الله شريكٌ فيها. وقد حمى حزب الله حتى الآن الرئيس لحود وحال دون إسقاطه في البرلمان، وهو معروفٌ بالتبعية لسورية التي يدينُ لها برئاسته وبالتمديد له. وثانيها مصير حزب الله وإصراره على الاحتفاظ بسلاحه قبل الحرب وبعدها. صحيحٌ أنّ الحزبَ ما استعمل سلاحَهُ بالداخل اللبناني، لكنّ السنة في بيروت ولبنان لا ينسَون أنّ الميليشيا الشيعية، استولت على أكثر أحياء بيروت على مدى الثمانينات، واحتلَّ هؤلاء عشرات ألوف المساكن، وما خرجوا منها بعد العام 1990 إلاّ بمئات الملايين من الدولارات؛ ولذلك لا يقبلون ولا يقبلُ المسيحيون بميليشيا مسلَّحة في العاصمة، ومناطق أُخرى أياً تكن الأسباب. وقد تأكدت مخاوفُهُم بإنشاب الحرب في شهر يوليو الماضي بالذات؛ والتي أورثت خراباً وتهجيراً كبيرين. ثم إنّ الجبهة الجنوبية أُقفلت الآن، فما الداعي لاستمرار وجود السلاح؟ لا يمكن أن يكونَ استمرارُهُ الخوف من السنة، لأنهم لا يملكون سلاحاً، ولا الخوف على حصة الشيعة في السلطة، فلا أحد يهدّدهم. وهكذا يظن كثيرٌ من السنّيين أنّ هناك نيةً، في ظرفٍ ما، لاستخدام ذلك السلاح في الداخل. وعندما يُقالُ لهم بل إنّ «المقاومة المسلَّحة» هذه، المقصودُ بها إقليميٌّ ودوليٌّ وليس محلياً (كما قال الشيخ نعيم قاسم قبل أيام: بالانتماء إلى المحور الإيراني ـ السوري)، يجيب كثيرٌ من أهل السنة والمسيحيين: إنّ هذا أدعى للتخوف؛ فحزب الله، يحوّل لبنان إلى ساحةٍ تتناوشُها الرياح الإقليمية والدولية! ولنعُدْ إلى الساحة الواقعية، وإلى السيناريوهات المحتملة: لا إمكان لإسقاط الحكومة إلاّ باضطراباتٍ في الشارع أو الانسحاب منها. وكلا الأمرين يؤدي إلى انقسامٍ سياسيٍ كبير، وتوتُّرٍ سنّي ـ شيعي أكبر. بيد أنّ البديل الذي يمكن أن يعرضَهُ الرئيس بري، والذي يتحدث عنه حزب الله همساً: التفاوُضُ المباشر بين الفرقاء السياسيين، وبين ممثلي السنة وممثلي الشيعة، بغضّ النظر عن الأحلاف والحلفاء للطرفين. وهذا أمرٌ يرى فيه السنيون خطراً كبيراً؛ إذ معنى ذلك تغييب المسيحيين، وتجاهُل وليد جنبلاط حليفهم الرئيسي. لكنْ لا شكَّ أنّ الأمر مُغرٍ من ناحيةٍ ثانية: لناحية التخفيف من التوتر المذهبي، ولصون الساحة اللبنانية من الاختراقات السورية والدولية في الأمد القريب، وتسهيل الموافقة علىالمحكمة الدولية باغتيال الرئيس رفيق الحريري. لكنْ أياً يكن ما تصيرُ إليه الأمور، فالراجح أنّ الحكومة الحالية لن تتغير قبل رئاسة الجمهورية. والراجحُ أيضاً أنّ دويلة حزب الله ستبقى، ولذلك فسوف يبقى الانقسامُ السياسي، والتوتر السني ـ الشيعي، دون أن يعني ذلك، على الأرجح، اندلاع نزاعٍ مذهبي، على شاكلة الحرب الأهلية اللبنانية السابقة. لن يحدث النزاع لأنّ أحداًً لا يريده ولا يدعو إليه، ولأنّ السنة ببساطةٍ لا يملكون سلاحاً، وتُصرُّ نُخَبُهُم على عدم السعي لامتلاكه.

* كاتب لبناني