نحن والغرب: متاهات هذا التنميط الساذج!

TT

يفترض ضمناً وأكاديمياً أن المواطن «فرد»، مستقل، حر الإرادة، ولكن يبدو أن ثمة تمثيلاً مغايراً للعرب في نظر الغرب، لا يميل إلى وصفنا أحراراً تماماً، ولا أفراداً تماماً، وبالتالي لسنا مواطنين تماماً، فكيف ذاك؟ هناك ثلاث قراءات متعددة، أما الأولى فترى أن العرب متنوعون للغاية ومن الصعب تحقيق الاتفاق على تعريفهم، فهل هم لبنانيون أو كويتيون أو.. ، وهل هم سنة أو شيعة أو أقباط أو.. ، وهل هم بربر أو كرد أو بدو أو حضر.. ، إلى ما هنالك من لغات وأديان وعرقيات وهويات قومية وثقافات مختلفة يطلق عليها تسمية العرب في التمثيل الشعبي سواء أكان أصحابها عرباً أم لم يكونوا، وأما القراءة الثانية فتمثل الشرق الأوسط بوصفه عربياً كله، فتمحي الفروق اللغوية والثقافية والعرقية والتاريخية بين عربه وأتراكه وإيرانية و.. ، والقراءة الثالثة تمزج العرب والشرق أوسطيون بالإسلام خلافاً لحقيقة أن معظم المسلمين ليسوا عرباً فقط، ولا شرق أوسطيون فقط، بل هم ماليزيون وصينيون وهنود و... و...

ومناسبة الكلام ما وصل إلى سمعي نقلا عن أحدهم في قناة فضائية عن الرعب الذي يستقر في قلوب الغربيين من مجرد رؤية المسلمين مجتمعين في مكة، من دون إبداء التفاصيل التي تشرح سبب هذه الرهبة، سوى بالتركيز على أعداد الجموع الغفيرة، والذي هو صحيح بالمعنى المقرب والدارج بيننا من وحدة الإسلام وأهله، ولكنه بالتحليل العميق، قد يؤدي بنا إلى أبعد من ذلك، فغالباً ما يمثل الغرب الإسلام بوصفه ديناً يتسم بالروح العدائية القائمة على الجهاد المعادي وراثياً وتاريخياً للآخر المسيحي الديمقراطي، وكم تبدو مبادئ الإسلام من وجهة نظرهم وكأنها ألغاز يحاولون فك شفرتها، أما أنصار ديننا فالخوف منهم، ولكن باعتبارهم أتباعا مندفعين ومتعصبين لرجال دينهم الذين يصلون إلى حد التطرف، وهو مفهوم أتى في رأيي من إساءة التعرف على طبيعة دين مركب ومختلف بأهله بطوائفه وعاداته ونظمه، فيكفي أن وسائل الغرب الإعلامية نادراً ما تميّز بين الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة والإسلام التاريخي، فيعرض إعلامهم الإسلام على أنه ذاته في كل الأقطار التي يمارس فيها، وبوصفه مجموعة متصلة تاريخياً من العقائد والممارسات التي هي في نزاع مع الحداثة، والخلاصة، أن وصل إلى فهمهم أن المسلم لا يستقيم أن يكون شخصاً حراً، ليزيد في تعزيزه إساءة فهم اللفظة العربية لكلمة «إسلام» في معاجمهم، والتي اعتبرت بمعنى الطاعة العمياء لإرادة الله، وليس مصالحة الإرادة الحرة للنفس مع الله، غير بحوث الاستشراف التي فسرت أن خضوع المسلم لله يساوي تنازله عن إرادته الحرة التي بدونها لا يكون المسلم فرداً في الفهم الغربي للنفس المستقلة، فكيف إذا جرّد المسلم من فرديته بانصهاره في بوتقة الجماعة، كونه نادراً ما يُصوّر وهو يصلي منفرداً أو منتصب الرأس، حيث جرت العادة أن تلتقط صورة صلاته في حشود من الناس، وبالأخص وقت السجود والرؤوس محنية والجباة تمس الأرض والأقدام حافية، فإذا انتقلنا باللقطة إلى بيت الله الحرام فالأعداد الهائلة وهي تطوف حول الكعبة، لتكون النتيجة وبحسب استنتاجاتهم، أن الذين يمارسون طقوساً بدائية في طواف لا يفهمون معناه، هم أتباع مستعدون للتضحية بحياتهم من أجل كلمة من رجل دين، بعيداً عن الفكر والتطبيق العقلاني الغربي، والتي هي سمات لا تتوافق مع الشخص الحر، فحتى يومنا لا يمكن أن يقتنع الغربي برجل يضحي بحياته من أجل جنة سمع عنها، وفي الإعلام الأمريكي تحديداً يعد خطاب رجال الدين أو السياسيين في الحركات الإسلامية، والذين يستشهدون بفريضة الجهاد باسم قضاياهم السياسية، يعدون متحدثين رسميين عن جوهر الإسلام كدين، وليس عن استعمالهم أو استغلالهم للإسلام لأهداف أخرى معظمها سياسي. تكاد توصف العمليات والنضالات السياسية في الوطن العربي على نسق واحد في الإعلام الغربي والأوساط الجامعية في افتقارها للديمقراطية قياساً على منظورهم للديمقراطية، بل، ومن السهولة الخلط بين ما يحدث في بلادنا من اقتتال وإلصاقه دائماً بالصراعات الدينية حول العقيدة، أما حكامنا العرب فيرونهم على الأرجح، إما طغاة أو على الأقل أتوقراطيون طيبون، وعلى الرغم من أن معظم أنظمة المنطقة السياسية غير ديمقراطية نسبياً، كثيراً ما يرجع المحللون الغرب غياب الديمقراطية إلى عامل الدين الذي يصورونه على أنه الدين الوحيد الذي يعتبر المثل السياسية جزءاً من مجموعة مبادئه، مما يقود معتنقيه إلى عدم الثقة بأشكال الحكم السياسي الحديثة، ويفضلون عليها نظاماً اجتماعياً لا يستند إلى سلطة سياسية معاصرة بنقاباتها وأحزابها وجمعياتها.

فكيف استجاب العرب لهذه التصورات عن دينهم ومجتمعاتهم، هذا هو السؤال!! أما الجواب فيكون من الإجحاف اختصاره في سطرين، ومع هذا نقول إن هوية الأجيال العربية ومع ظروف الاستعمار والغزو الثقافي وسطحية وعاء المتلقي القابلة للامتلاء من دون غربلة، ساهمت جميعها في التشتت بين ما هو عربي وما هو غير، بين ما هو من الدين وما هو من التقليد والعادة، بين ما هو من الحلال وما هو من الحرام، ولا فتوى تجيز تحليله، فارتبكت الأمور وانتهى تحديد الهوية إلى الطائفة والقبيلة والأسرة ووضعها الاجتماعي، وعوضاً عن الارتقاء وشد الظهر بتركيبتنا الاجتماعية المفتقدة في الغرب، صارت حصيلة هذه التنظيمات في عالمنا والمرتكزة على نظم الأسرة والذكورة والروابط الدينية والعرقية والقبلية، أصبحت هي نفسها العائق أمام تقدمنا وتطورنا، لدرجة أنها أضرت بمخططات الدولة نفسها للارتفاع بمستوى مواطنيها، أما تصوير المجتمع العربي بأنه يتألف من جموع تشاهد دائماً بهيئة جماعية، لم تكن لتساهم في رسم صورة العربي غير الحر لو أنه استوعب تماماً ما تعنيه كلمة الحرية والإرادة الحرة ومسؤولية امتلاكها، والتي لو حصل حتماً ما ستلقي الرعب في قلب الغربي، ليس بسبب خوفه من تهور العربي غير المنطقي، ولكن من عقل العربي الحر.