أخلاقيات الدانمارك قبل قرنين

TT

بعد الرسومات الدانماركية الحمقاء صدر كلام آخر من كوبنهاغن لم يثر الضجة نفسها ولا الاهتمام نفسه. وقد ذكرتني «ادبيات» الحمقى ومحبي الاثارة بما قرأته عن الدانمارك فيما كنت اعد «قافلة الحبر» عن الرحالة الغربيين الذين جاءوا الى الجزيرة والخليج بين اواسط القرن الثامن عشر وأواسط القرن العشرين. وكان قد جاء الى الشرق قبل ذلك رحالة كثيرون وفي قرون سابقة. لكن اول بعثة علمية الى الخليج والجزيرة جاءت بتكليف من فريدريك الخامس «ملك الدانمارك والنروج» وكانت تضم العالم اللغوي فريدريك كرتيان دوهافن وبيار فورسكال عالم الرياضيات والمهندس كارستن نيبور والطبيب كريتيان شارل كرامر والرسام جورج غييوم برونفيد.

وجاء في الأمر الملكي للبعثة توصيات وتعليمات كثيرة اهمها «اكتشاف تلك البلاد خدمة للعلوم والاداب»، ومحاولة الوصول الى الاماكن الداخلية بقدر الامكان، وشراء مخطوطات بأسعار متهاودة، اذا ما توافرت، شرط عدم المس بمشاعر المسلمين اذا كانت هناك نسخ قرآنية يجب عدم الحصول عليها. ويطلب الملك من البعثة احضار نماذج وبذور زراعية وقواميس عربية «ولكن الكتب العربية الطبية غير جديرة بالاهتمام باستثناء ما يتعلق بوباء الجدري». غير ان اهم ما ورد في الاوامر الاخلاقية الصادرة قبل 200 عام من حماقات اليوم، يرد في الفقرة العاشرة من التوصيات:

«يجب ان يتصرف رجال البعثة بكل لباقة مع سكان شبه الجزيرة. لا يسمح لهم بانتقاد دينهم او اهانته، سواء بطريقة مباشرة او غير مباشرة. وعليهم الابتعاد عن كل ما يسيء الى تلك الشعوب، واتباع الكياسة في الابحاث التي قد تثير شكوك المسلمين، الذين قد يظنون اننا في صدد البحث عن كنوز او استخدام السحر او القيام بأعمال تجسس على بلدانهم. ويجب عدم اثارة غيرة العرب وثأرهم السريع ضد اقامة علاقات غرامية. اننا نمنع منعاً باتاً اقامة اي علاقة غير مشروعة مع نساء متزوجات او نساء اخريات تثير غيرة الشرقيين وانتقامهم. وتعلمنا التجربة خطورة هذه الاعمال في البلدان التي تتبع الاسلام، حيث ينزل عقاب الموت بمن يهين مسلما. وإذا ما خالف احدكم اوامرنا ووقع في ورطة ما، فسوف نضطر لتركه يواجه مصيره ولن يعرض رفاقه انفسهم للخطر من اجل انقاذه». الذي حدث هو العكس. تعرض رجال البعثة للاضطهاد احياناً وللإهانة في بعض اليمن وظل سلوكهم هادئاً ومنضبطاً كما روى لنا نيبور في يومياته المثيرة. وكان الدانماركيون منذ ذلك الوقت مأخوذين بالهم الزراعي. وقد انتقدت البعثة على اساس انها ذاهبة الى بلاد حارة لا يمكن العودة منها بأي بذار صالح للزراعة في مناخ بارد. ودافعت عن نفسها بالقول ان فرنسا حصلت على ثروة عندما وصلت اليها زراعة الكرمة من بلاد حارة، وان الدانمارك نفسها «حصلت على ثروة تفوق جميع مناجم الذهب عندما اكتشفت زراعة التوت» الذي يستخرج منه الحرير. ويذكر ان ثروة لبنان الاولى حتى اوائل القرن الماضي كانت زراعة وصناعة الحرير، ومنها الطقطوقة الشعبية التي تغنيها فيروز: «اللي بدو يعشق /يتاجر بالحرير/ الهوى يا عيني، يا عيني، بدو مال كتير».