برادا والشيطان

TT

اقر واعترف بأنني في شبابي عرفت الطريق الى بوتيكات سان لوران وديور وفالنتينو وجوتشي. فدخول هذا العالم هو ممر سايكو سوسيولوجي في حياة النساء. واعترف بأنني امضيت سنوات طوال من عمري في محاولة لتخفيف وزني لكي لا تستفحل الخصومة بيني وبين عالم الموضة الى نقطة اللاعودة. ورغم انني ودعت الشباب مازلت انظر باعجاب الى حقيبة يد هنا وحذاء هناك ولكنه اعجاب لا يصل الى فراق بيني وبين المال الذي علمتني الحياة انه امتحان وامانة يجب التصرف فيها بتأن شديد. وربما دفعتني تلك الافكار الى دار العرض لمشاهدة فيلم جديد تقوم ببطولته ميريل ستريب، فهو فيلم بعنوان: الشيطان يفضل برادا. اما برادا فهي ماركة ايطالية شديدة الجاذبية للشابات الفاتنات خاصة في مجال الاحذية وحقائب اليد التي قد يصل سعر الواحدة منها ما يزيد على الالف دولار.

استفزني عنوان الفيلم فذهبت لمشاهدته، واكتشفت انه محاولة ذات وجهين لفتح نافذة على عالم الموضة وتأثيره على حياة الفتيات. فالبطلة رئيسة تحرير اشهر مجلات الموضة في نيويورك: امرأة ذات بأس شديد وصيت يسبقها اينما كانت يفيد بأنها شديدة القسوة وشديدة الغرور ولا تعرف الرحمة سبيلا الى وجدانها وهي تتعامل مع مرؤوسيها. هدفها الاول هو البقاء على القمة وهو بقاء تسعى اليه باستعباد من هم دونها في السلم الوظيفي والقضاء على منافسيها وخصومها. ورسالة الفيلم الى النساء هي ان المرأة سواء تمردت على الموضة ام امتثلت لقوانينها هي في النهاية اسيرتها تحركها ذات اليمين وذات اليسار سواء تابعت اخبار الموضة ام لا ومهما كانت امكانياتها المادية.. فالثياب معتدلة الاثمان التي تباع في الاوكازيونات هي ايضا موديلات العام الفائت او العام الذي سبقه والتي فرضتها صناعة الموضة على السوق في ذلك الوقت ثم ابتكرت غيرها فدفعتها الى الاوكازيون لكي تحقق منها ارباحا ولو طفيفة. وحين تشتريها المرأة التي تزدري الجري وراء احدث الموضات لا تعرف انها وقعت راضية في فخ منصوب. ولكي يبلغ تحدي الموضة منتهاه الحل الوحيد هو ان تنسج كل منها بيديها القماش وتحيكه ولا تنظر الى صورة في مجلة او اعلان، وهو امر يستعصي على غالبية النساء.

الموضة صناعة جذابة ولكنها للاسف تقتات على سلبيات النفس البشرية ومنها الغرور والجشع والتنافس وحب الاقتناء والحسد والاهتمام بالمظهر علي حساب الجوهر، وهذا هو ما يؤكده الفيلم، وكأن لابسة الموديل الثمين تختال ولسان حالها يقول للاخريات: انا اكثر منك مالا واعز نفرا. وهي حالة وجودية تتسابق اليها الشخصيات في الفيلم الى درجة تستحق الرثاء فعلا. ورغم اعجابي الشديد بأداء ميريل ستريب للشخصية المركبة التي جسدتها شعرت بأن كاتب السيناريو والمخرج ديفيد فرانكل يسددان طعنة نجلاء الى قلب المرأة التي تصل الى قمة السلم الوظيفي فتشتري القوة بالتنازل عن صفاتها الادمية. وهذا هو الوجه الاخر للفيلم: افتراء يطال المرأة على جميع المستويات، الافتراء يطال كافة الشخصيات الثانوية. فالسكرتيرة الاولى تتعالى على السكرتيرة الثانية. والسكرتيرة الثانية تهمل علاقتها مع ابيها ومع خطيبها وتستجيب لصحافي مشهور لوح لها بفرصة عمل افضل. فالمرأة كما صورها الفيلم كائن مادي اجوف يتنازل عن كل مبدأ تحت اغراء المال والقوة والثياب التي ترضى عنها مجلات الموضة. وتتساوى في ذلك رئيسة تحرير او رئيسة مجلس ادارة او سكرتيرة او اية زبونة في اي مكان في العالم تقدم دفتر الشيكات عربونا لصداقة مع برادا او فالانتينو.

في عرف السيناريست والمخرج الرجل الناجح يستحق الاعجاب، وان اشتهت المرأة نجاحا تتنازل عن ادميتها وترسل عقلها في اجازة مع الشيطان.