مؤشر التنمية والإصلاح السعودي.. إلى أين؟

TT

بدأ زخم الحديث عن الإصلاح والحوارات الوطنية والجدل الإعلامي والثقافي الداخلي، يتضاءل منذ نهايات عام 2004، وبدايات عام 2005. كانت تلك الحورات الساخنة والتفاعل الشعبي اللافت، ومقالات الصحافة، ومنتديات الانترنت تمثل قمة منحنى لطفرة فكرية اصلاحية وثقافية اعلامية بدأت ملامح صعودها مع نهاية التسعينات وبداية الألفية الجديدة. وقد قامت بدور ايجابي ملموس في امتصاص اختناقات متعددة من مخلفات اخفاق بعض الخطط التنموية خلال عقدين. فجأة أخذ الاهتمام الجماهيري بهذه الأحاديث والنشاطات يتلاشى وتتحول هذه القضايا إلى موضوعات ثقيلة لا تملك جاذبيتها السابقة في الصحافة والاعلام، هذا النزول الحاد لمؤشر الاهتمام الفكري والاصلاحي كانت نتيجة طبيعية لارتفاع حاد لمؤشر آخر، حيث انطلقت رحلة مؤشر سوق الأسهم السعودية وبزمن قياسي إلى فوق العشرين ألف وبدون توقف يذكر حتى بداية عام 2006، التي انتهت بكارثة فبراير التاريخية، وذهبت معها مدخرات الملايين من صغار المستثمرين ورقم يفوق التريليون ريال..! من المفارقات المؤلمة وهي كثيرة جدا، انه مع بداية انطلاقة المؤشر إلى رقمه التاريخي وظهور حمى الأسهم وأحلام الثراء الشعبي، وتحولها إلى اهتمام جماهيري غير مسبوق في أحاديث المجالس الخاصة والعامة، كان بعض النخب الاصلاحية والمهتمة في الشأن العام تفسر هذه التحول الجماهيري المفاجئ في البورصة بأنه مؤامرة حكومية تستهدف اشغاله وصرف نظره عن قضايا الاصلاح والفكر والانهماك بحساب الأرباح، هذه الرؤية المؤامراتية التي يستسلم لها البعض بسهولة من دون إدراك لطبيعة تشكل الحراك الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في مجتمعات ودول تنقصها أسس الأهلية والوعي التنموي. سيتناقض هذا التفسير تلقائيا مع كارثة فبراير التي قصت المؤشر إلى نصفين بصورة مرعبة، حتى لمن ليس لهم علاقة بالسوق، وذهبت بنصف أرباحه وبزمن قياسي ليمثل خصوصية سعودية، فبعد الانهيار الكبير ظهرت تفسيرات مؤامراتية بأنه إرادة حكومية..! ليس الحديث هنا عن تفصيل ما جرى في السوق منذ البدايات، فهذا موضوع آخر. عقلية المؤامرة تعود مرة أخرى وهي تفسيرات تعويضية تأتي عادة لأشياء تحدث سرا ويصعب فهمها، والواقع أن أسواق المال تملك شفافيتها الخاصة في الفساد والتلاعب ويمكن رصد كل ما حدث وما يحدث رقميا وبسهولة الذي أكد انعدام روح المسؤولية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عند بعض رجال الأعمال والأثرياء في السعودية، والسعي في تحقيق أرباح خرافية في وقت سريع من خلال الاستفادة من ثغرات بعض الأنظمة التي تجتهد في استكمال بنيتها وتشريعاتها مع المتغيرات الاقتصادية الجديدة، هذه المصيدة التنموية المبكرة لقطاع عريض من المجتمع والتي أنهكت مدخرات الطبقة الوسطى كان للإعلام والصحافة دورا سلبيا فهو لم يقم بأي جهد تنويري مبكر منذ البدايات في كشف ما يحدث حينها، وقد بدأ واضحا أن محللين ومختصين في الاقتصاد شركاء في هذه اللعبة الضارة بالوطن وزيادة كلفة وضريبة الإصلاح التي تحاول الحكومة منذ سنوات تحقيقه، ولقد سبق المضاربة بالأسهم مضاربات عقارية ساهمت في تضخم أسعار العقار، وأصبحت مهمة شراء قطعة أرض سكنية في صحراء تكلف مئات الآلاف من الريالات، وعلى المواطن أن يقضي ثلث عمره في جمعها..!

ما يحدث من أخطاء في التنمية الإقتصادية وتكرارها عند أكثر من مرحلة يسيء للجهود الإصلاحية الحكومية، التي برزت ملامحها منذ سنوات، ويؤدي إلى انهاك مستمر ومتزايد للطبقة الوسطى العمود الفقري والأهم في الدولة والمجتمع، وما تقود إليه من اختلالات هيكلية اجتماعية مربكة للحراك التنموي، ومولدة للعديد من الأزمات التي يصعب التنبؤ بمفاجآتها غير السارة في المدى المنظور والبعيد.

من المفترض أن تكون الطفرة النفطية الثانية ليست مجرد مسكنات لأوجاع عثرات التنمية السابقة، فمبررات تلك الأخطاء كانت مفهومة في سياقها التاريخي والاجتماعي، لكن هذه الوفرة المالية من عائدات النفط في السنوات الأخيرة ووصوله إلى مستويات قياسية، تأتي في هذه المرحلة لمجتمع حقق قدرا معقولا من التعليم والوعي، ووسط بنية تحتية جيدة توفرت من نجاحات خطط التنمية السابقة، تفرض الاستفادة من دروس الخطط التنموية الماضية. سوء الادارة قد تؤدي إلى إهدار السيولة النقدية المتدفقة في مشروعات غير مجدية، مع غياب ملموس للحس النقدي عند الكثير من المهتمين في الشأن الاقتصادي كشفته العديد من الأحداث الاقتصادية نتيجة النفعية المتبادلة التي تستلم لها الطبيعة الانسانية.

في هذه المرحلة نحن نقترب من إعلان ميزانية عام 2007، وكانت هذه الموجة أو الانتفاضة الإصلاحية الحكومية بدأت ملامح جديتها منذ ما يقرب عشرة أعوام، حينما حدث الانهيار الكبير لأسعار النفط عامي 1997 /1998، ووصلت إلى مستويات العشر دولار. وكانت صافرة انذار حقيقية دفعت بالعديد من الإصلاحات الاقتصادية إلى الواجهة، وإطلاق مفهوم سياسة الترشيد المالي، والسعي لتخفيض الدين العام، ورحبت وسائل الاعلام والصحف السعودية في حينها بهذه الخطوات وبدأت تتوسع ثقافة التقشف في العديد من القطاعات، وقد استمرت هذه الجهود الاصلاحية حتى مع بداية تحسن الأسعار عام 1999، وانتشرت الثقافة الإصلاحية في عدة مجالات وأنشطة، وكانت أحداث سبتمبر، وارهاب الداخل، واحتلال العراق من اهم المحطات المحفزة في إحياء النقد الإصلاحي في الحريات الاعلامية والتعليم والخطاب الديني، ومراجعة مقولات ثقافية واجتماعية سائدة، والتصحيح الفكري للعديد من المفاهيم، وقد كان للتفاعل الرسمي والحكومي الإيجابي دورا كبيرا في تشجيع هذا الرؤى التصحيحية من خلال عدة مبادرات لمسها المواطن، فسن العديد من الأنظمة، وتنشيط برنامج الخصخصة في المجال الاقتصادي، وتجربة الإنتخابات البلدية، والحوار الوطني، وولادة جمعية لحقوق الإنسان، ونظام هيئة البيعة مؤخرا جميعها مؤشرات إيجابية في جهود الإصلاح السعودي.

لكن مرور هذه السنوات من عمر التجربة الجديدة التي تختلف بظروفها المحلية والعالمية وأدواتها الاعلامية عن مراحل سابقة يجعلنا بحاجة للقيام بمراجعات حول مؤشرات التنمية وعن ما تم طرحه من اصلاحات، ومدى كفاءة الانجاز في كل المجالات أفضل من محاولة افتعال قضايا جديدة. إن النقد في أثناء المرحلة ذاتها وتفعيل دور المحاسبة للجهات المقصرة في أداء دورها، سيقلل من حالات الفشل، ويكتشف الخلل مبكرا، قبل أن تتعرض العائدات النفطية الى انتكاسة مؤلمة. إن تزايد الكتابات التمجيدية الفارغة من أي مضمون قد تشجع في إخفاء بعض مظاهر التعثر التنموي مبكرا، وتحول حورات الإصلاح الفكري والديني إلى مجرد خناقات فردية بين بعض المطاوعة وخصومهم حول جزئيات هامشية جاءت من مشكلات فكرية أكبر هو تفريغ للحركة النقدية من مضمونها التنويري. وتكرار الأخطاء في بعض المجالات الاقتصادية التي يتضرر منها متوسطي الدخل عادة سيعطل قيمة وفعالية الخطوات الإصلاحية، ويولد مشكلات جديدة. فالكثير من حالات الخلل التنموي في المجتمع تظهر بوادرها السلبية ببطء مما يشجع على تأجيلها باستثناء المجال الإقتصادي، الذي يؤكد دائما في كل المجتمعات أنه الأقدر على جمع مختلف التيارات تحت مظلته، والأسرع على اشاعة التذمر والاستسلام لدعايات خصوم الوطن «فلا يستطيع أن يكون وطنيا من كان ذا معدة خاوية»، كما يقول وليم بران.